"آيات الأخلاق": سؤال الأخلاق عند المفسرين (2024)

Abstract

يعالج البحث مفهوم "آيات الأخلاق" كمقابل لـ"آيات الأحكام" الذي شاع لدى الفقهاء والمفسرين وصُنِّفت فيه المصنفات، فيحرر مفهوم الأخلاق بوصفها علمًا، ويبحث إشكالية التداخل بين الأخلاقي والفقهي ومحاولات التمييز بينهما تاريخيًّا، كما يوضح أنه لم يستقرّ لدى المفسرين تصورٌ نظريّ محدد حول أخلاق القرآن أو الجانب الأخلاقي فيه خارجَ إطار التصورات الفلسفية اليونانية التي تجعله فرعًا من فروع الفلسفة أو الحكمة العملية. ونظرًا لهذا الغموض في التأسيس النظري لمفهوم الأخلاق في التراث التفسيري وموقعه من باقي علوم القرآن، فإن القرآن لم يُشكّل الإطار المرجعيّ الحاكم في بناء التصورات الأخلاقية أو محاولة استكشافها. يحاول البحث استشكاف طرائق تفكير المفسرين القدامى في الجانب الأخلاقي من القرآن، ويدرس الآيات التي قيل: إنها تعبر عن أصول علم الأخلاق، ويقف مطولاً عند الآيتين (199) من سورة الأعراف، و(90) من سورة النحل.

Keywords: آيات الأخلاق; الأخلاق; القرآن; التفسير; الأحكام

‫* أستاذ المنهجية والأخلاق في مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، كلية الدراسات الإسلامية، جامعة حمد بن خليفة (malkhatib@qf.org.qa)‬

مقدمة‫:

شاع منذ القرن الثاني الهجري تعبيرُ "أحكام القرآن"، ثم غلَب على الفقهاء والباحثين في مناهج المفسرين—فيما بعدُ—تعبيرُ "آيات الأحكام" للدلالة على تلك الآيات التي تبحث في ما تَضَمنه القرآن من أحكام تشريعية أو عملية، وهو ما سُمي لاحقًا بالتفسير الفقهي. ولكنّ تعبيرَ "آيات الأخلاق" يُثير من الإشكالات مثلَ ما أُثير حول تعبير "آيات الأحكام"، سواءٌ لجهة مدلول "الآية" (هل هي الجملة المفيدة أم الآية الاصطلاحية؟) أم لجهة مدلول الحُكم (هل يقتصر على الحكم الفقهي أم يشمل العقدي والأخلاقي أيضًا؟)، إلا أننا هنا مع "آيات الأخلاق" أمام إشكال من نوع مختلف يُثيره لفظ "الأخلاق" لجهة المفهوم، وما إذا كان يمكن فَصْل الأخلاق عن الأحكام.

فالأخلاق في المفهوم الذي شاع في التراث الإسلامي هي "حالٌ للنفس داعية لها إلى أفعالها من غير فِكْر ولا رَوِيَّة" كما عرفها ابن مسكويه (421هـ/1030م) (ابن مسكويه د ت، ص41)، وهي إما أخلاقٌ طبيعية من أصل المزاج والأخلاط، أو مستفادةٌ بالعادة والتدرب، ونحوُه عند الغزالي (505هـ/1111م) الذي وصف الخلُق بأنه "هيئة للنفس راسخةٌ " (الغزالي 2004, 3: 53)، وجعلها الماورديُّ (450هـ/1058م) "غرائز كامنة تظهر بالاختيار وتُقهر بالاضطرار"، وهي ضربان: أخلاق الذات—أي ما فُطر عليه—وأفعال الإرادة، أي أنها مكتسبة (الماوردي 1981, 5). ويرجع مجمل هذا المعنى إلى الموروث اليوناني كما سيأتي لاحقًا، كما أن هذه التعريفات لا تخرج عن المعنى اللغوي للخلُق الذي هو الطبع والسَّجِيَّة، أي أنها وصفية لا معيارية، ولذلك وَجد محمد عبد اللّٰه دراز (1958م) في تلك التعريفات إبهامًا؛ إذ إن الخلُق ليس صفةً للنفس في جملتها، بل هو صفةٌ لجانب معين من جوانبها، وهو القَصْد والإرادة، وهو متعلق بنوع خاص من الأهداف الإرادية التي ينشأ عن اختيارها وصفٌ يعود على النفس بأنها خيّرة أو شريرة، وعرّفها دراز بأنها "قوة راسخة في الإرادة تَنزع إلى اختيار ما هو خيرٌ وصلاحٌ، أو اختيار ما هو شر وجَوْر" (دراز 1953, 4). فالأخلاق التي نتحدث عنها هنا هي الأخلاق بوصفها علمًا يتجاوز وصفَ ملَكات النفس وصفاتها، ويشتمل على مجالٍ نظريّ يعبر عن المبادئ الكلية والمعاني الجامعة التي تُشتق منها الواجبات الفرعية (كالخلق المطلق، والفضيلة، ومقصد العمل …)، وعلى مجالٍ عملي يشتمل على أنواع الملَكات الفاضلة التي يجب التحلي بها (كالإخلاص، والصدق والعفة، …) (دراز 1953, 16–17). فالأخلاق علمٌ نظريٌّ وفنٌّ عمليٌّ تبحث في المعاني الكلية العامة النظرية (مثل الخير والشر والحق والواجب)، والمقاييس والبواعث والغايات والمُثل العليا، وتبحث فيما يدعو لتحقيق تلك المثل والغايات (موسى 1943, 12).

وفي فلسفة الأخلاق ثمة نقاشٌ حول مستويات التفكير في المسألة الخلقية، والفرق بين مفهومي (Éthique) و (Morale)، وثمة أقوال متعددة يناقض بعضها بعضًا (عبد الرحمن 2000, 17–24)، ولكن بول ريكو‫ر (Paul Ricœur)—على سبيل المثال—يفرّق بين ثلاثة مستويات: الأول: الفضائل (Éthique) وهي التي تُعنى بمجال التقويمات الجوهرية والعلاقة بمقتضى الخير، أي السعي لحياة طيبة والتطلع نحو الكمال، والثاني: أخلاق الواجب (Morale) وهو مجال الواجب الكلي، والثالث: الحكمة العملية (Sagesse Pratique) وتُعنى بأخلاقيات الذات وجماليات السلوك الأخلاقي، فهي مجال التعامل مع الحالات الإنسانية، فمجالا الفضائل (الإتيقا) والأخلاق يتصلان بالكليات، في حين أن الحكمة العملية تتصل بالمستجدات الإشكالية والملتبسة التي تحتاج إلى تَبَصُّر وحكمة في حساب الواجب والعواقب لحسم خيارات عَصِيّة على الضبط (ريكور 2005).

يُثير التفكيرُ الأخلاقي الحديث جملةً من التساؤلات التي يجب طرحها على الإرث التفسيري من قبيل: لماذا يغيب تعبير "آيات الأخلاق" لصالح تعبير "آيات الأحكام"؟ وما أسباب غياب المقاربة الأخلاقية للقرآن في ظل وجود مقاربات متنوعة له؟ وكيف يمكن فهم إشكالية التداخل بين الأخلاق والفقه والأصول؟ وهي تساؤلاتٌ تساعدنا على استكشاف طرائق تفكير المفسرين بالجانب الأخلاقي من القرآن، وما إذا كان لديهم إطار نظريٌّ لذلك، كما أنه من المهم بحث ما إذا كان النص القرآني نفسه مرجعيةً لبناء تلك التصورات والمفاهيم الأخلاقية. ولبحث ذلك كله سيتم التركيز على الآية (199) من سورة الأعراف والآية (90) من سورة النحل بناء على معيارين: الأول: الروايات التي تجعل منهما آيتين جامعتين لمكارم الأخلاق، والثاني: اعتبار مفسرين بارزين كالفخر الرازي (606هـ/ 1209) وغيره لهاتين الآيتين مُمَثَّلتين لعلم الأخلاق في القرآن.

أولاً: المقاربة الأخلاقية للقرآن

تنوعت مقاربات القرآن الكريم تنوعًا شديدًا، واصطبغ كلُّ تفسيرٍ بخلفية مفسَّره؛ فكان كل من بَرَع في علمٍ "يقتصر—في تفسيره—على الفنَّ الذي يَغلب عليه"، وقد عدَّ جلال الدين السيوطي (911هـ/1505م) من تلك الفنون التي غَلَبت على المفسرين: النحويّ والإخباريّ والفقيه وصاحب العلوم العقلية (السيوطي 1974, 4: 243)، ولكنْ لا نكاد نعثر على مقاربة أخلاقية للقرآن أو تفسيرٍ غلَب عليه الجانب الأخلاقي، كما هو الحال مع وجود تفاسير فقهية وكلامية ونحوية وبلاغية وغيرها، مع أنهم حين يَعُدون العلوم المستنبطة من القرآن يذكرون من بينها "علم الأخلاق"، وإن كان التعبير عنه لا يتخذ اسمًا أو مصطلحًا مستقرًّا بل يتردد بين أسماء مختلفة، منها: التذكير، وعلم الباطن.

فأبو بكر بن العربي (543هـ/1148م) حصر علوم القرآن في ثلاثة هي: التوحيد (معرفة المخلوقات بحقائقها، ومعرفة الخالق بأسمائه وصفاته وأفعاله)، والتذكير (معرفة الوعد والوعيد، والجنة والنار، والحشر، وتصفية الباطن والظاهر عن أخلاط المعاصي)، والأحكام (التكليف من العمل النافع والضار، والأمر والنهي والندب) (ابن العربي 1986, 541–542). وفخر الدين الرازي قسم ما اشتمل عليه القرآن من العلوم الدينية إلى قسمين: الأول: علم العقائد والأديان، والثاني: علم الأعمال، ثم قسم علم الأعمال إلى قسمين: "علم التكاليف المتعلقة بالظواهر وهو علم الفقه"، وعلم "تصفية الباطن أو رياضة القلوب" (الرازي 1999, 17: 253)، وفي موضع آخر رأى أن العلوم النافعة التي اشتمل عليها القرآن كثيرة جدًّا، ولكن يضبطها قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّّٰه … ﴾ [البقرة: 285]، وأن الإيمان باللّٰه يشتمل على خمسة علوم هي: معرفة الذات، والصفات، والأفعال، والأحكام، والأسماء. والأحكامُ هنا يُراد بها "أحكام اللّٰه تعالى وتكاليفه" وتنقسم إلى قسمين: أعمال القلوب وأعمال الجوارح. فأعمال القلوب هي "علم الأخلاق، وبيان تمييز الأخلاق الفاضلة والأخلاق الفاسدة،" وأعمال الجوارح هي "التكاليف الحاصلة في أعمال الجوارح، وهو المسمى بعلم الفقه" (الرازي، 1999, 26: 444–445).

‫وحين عدّد السيوطي "الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية من القرآن" ذكر فنين منها يتصلان بالنظر الأخلاقي، وهما:

  • (1)الموعظة من القرآن: وقد اعتنى بهذا الفن الوعاظُ والخطباء؛ إذ تَنَبَّهوا "لما فيه من الحِكَم والأمثال والمواعظ التي تُقَلْقِل قلوب الرجال وتكاد تُدَكْدِكُ الجبال، فاستنبطوا مما فيه من الوعد والوعيد، والتحذير والتبشير، وذِكر الموت والمعاد، والنشر والحشْر، والحساب والعقاب، والجنة والنار، فصولاً من المواعظ وأصولاً من الزواجر."

  • (2)والتفسير الإشاريّ؛ فقد نظر في القرآن "أرباب الإشارات وأصحاب الحقيقة فلاح لهم من ألفاظه معانٍ ودقائقُ جعلوا لها أعلامًا اصطلحوا عليها مثل: الفناء والبقاء والحضور، والخوف والهيبة، والأُنس والوحشة، والقبض والبسط، وما أشبه ذلك" (السيوطي 4 ,1974 : 32–33).

توضح الأقوال السابقة اختلافَ التصورات عن المسألة الأخلاقية وموقعِها من العلوم التي اشتمل عليها القرآن، فالأمر لم يقف عند حدود الاصطلاح المعبَّر عن موضوع الأخلاق، تارةً باسم التذكير والموعظة، وأخرى باسم علم الباطن (أو تصفية الباطن أو رياضة القلوب أو أعمال القلوب)، وثالثة باسم علم الأخلاق، بل تَعَداه إلى المفهوم نفسه وحدوده التي تتسع أو تضيق، ويمكن أن نميز هنا بين ثلاثة معانٍ للأخلاق: الأول: الأخلاق الدينية التي ينشغل بها المتصوفة الذين عرّفوا علم الباطن بأنه "معرفة أحوال القلب، والتخلية ثم التحلية" (خليفة 218 :1 ,1941)، وأنه "العلم باللّٰه تعالى الدالُّ على اللّٰه تعالى، الرادُّ إليه، الشاهدُ بالتوحيد في علم الإيمان واليقين وعلم المعرفة والمعاملة؛ دون سائر علوم الفُتيا والأحكام" (المكي 2005, 1: 240)، والثاني: الرقائق وهي التي تشتمل على الوعظ والتذكير والتخويف والترغيب والترهيب، كما أفاد كلام ابن العربي والسيوطي. والثالث: علم الأخلاق الذي ينشغل ببيان الأخلاق الفاضلة والأخلاق الفاسدة كما أفاده كلام الرازي.

ومن اللافت اختلافُهم أيضًا في موقع تلك الأخلاق من العلوم القرآنية، فهي تارةً قسيمٌ للأحكام والعقائد—كما هو تصور ابن العربي—وأخرى داخلةٌ في جنس الأعمال بوصفها أعمالاً للقلوب وقسيمًا لأعمال الجوارح، وثالثةً جزءٌ من الإيمان باللّٰه ومتفرعةٌ عنه كما هو تصور الرازي. وقد جعل نظام الدين النيسابوري (850هـ/1446م) الأخلاق ضمن الحكمة العملية، والحكمة—باصطلاح الحكماء—"عبارة عن معرفة الحقَّ لذاته والخيرِ لأجل العمل به،" فالتكاليف—برأيه—"مشتملة على أصول مكارم الأخلاق وهي الحكمة العملية،" في حين أن "الأمر بالتوحيد رأس الحكمة النظرية،" فالتوحيد "رأس كل حكمة وملاكها، ومن فَقَده لم ينفعه شيء من العلوم" (النيسابوري 1995, 4: 350). ونجد تفسير "الحكمة" بالأخلاق لدى بعض المفسرين المتأخرين أيضًا كعبد الحميد الفراهي (1348هـ/1930م) الذي فسّر لفظ "الكتاب" في القرآن بالشرائع، وفسر لفظ "الحكمة" بأصول الشرائع من الأخلاق، ورأى أن الدين إنما جاء لتهذيب النفوس، وأن الشرائع ذريعةٌ إليه، وهي كلها داخلة في خلق "التقوى" (الفراهي دت، ب). فالدين معظمه "ترقية النفوس، وتربية العقول، وإصلاح الأعمال الظاهرة"، وهو ما تكفلت به ثلاثة علوم هي: الأخلاق، والعقائد، والشرائع، وبجميعها تحصل التزكية التي هي الغاية والمطلوب (الفراهي، دت، ب، وانظر الندوي 1978, 4–6).

تُحيل هذه المعاني إلى عدم استقرار تصور نظريّ محدد لأخلاق القرآن، أو للجانب الأخلاقي فيه، فهي لا تعدو واحدًا من تصورين:

الأول: أخلاقٌ دينية متصلةٌ بالعلاقة باللّٰه على طريقة المتصوفة، ولذلك رأى الحسين بن محمد الطيبيّ (743هـ/1342م) أن من ضمن ما احتوت عليه سورة الفاتحة من العلوم—بالإضافة إلى علم الأصول (الاعتقاد) والفروع (الفقه) والقصص (الأخبار)—"علم ما يحصل به الكمال، وهو علم الأخلاق، وأَجَلُّه الوصول إلى الحضرة الصمدانية والالتجاء إلى جناب الفردانية، والسلوك لطريقه والاستقامة فيها، وإليه الإشارة بقوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) ﴾ [الفاتحة: 5–6]" (السيوطي 1974, 4: 140).

والثاني: معرفة الفضائل والرذائل على طريقة الفلاسفة، ولا يمكن تَجَاهل الأثر الفلسفي اليوناني في إدراج الأخلاق ضمن الحكمة العملية، فمن المعروف أن بعض الفلاسفة جعلوا العلوم الحكمية العملية ثلاثة هي: علم الأخلاق، وعلم تدبير المنزل، وعلم السياسة (خليفة 1941, 1: 13, 381)، وقد أدخل طاشْكُبْرِي زادهْ (968هـ/1561م) في فروع الحكمة العملية: علم آداب الملوك، وعلم آداب الوزارة، وعلم الاحتساب، وعلم قَوْد العساكر والجيوش، وهي—عنده—منفصلةٌ عن العلوم الشرعية (التي من فروعها: علم التفسير) (خليفة 1941, 1: 14)، وهو ما قد يساعد على فهم غياب مقاربات أخلاقية للقرآن على شاكلة المقاربات الأخرى القائمة، مع وجود تفاسير إشارية ذات منحى صوفي انشغلت بما نسميه الأخلاق الدينية التي تركز—أساسًا—على شكل علاقة الإنسان باللّٰه. فطاشْكُبري زاده اعتمد تصنيف ابن سينا (427ه/1037م) للعلوم إلى: آلية ونظرية وعملية، وابن سينا يقسم العلوم العملية إلى ثلاثة هي: الأخلاق، وتدبير المنزل، وتدبير المدينة، وهو بدوره متأثرٌ بالتصنيف الأرسطي للعلوم الذي فرض أثره على كثير من الفلاسفة المسلمين، والذي يجعل العلوم ثلاثة هي: نظرية وعملية وشِعرية، إلا أن طاشكبري زاده جعل علم الأخلاق ثمرةَ كل العلوم. والأخلاقُ هنا هي علمٌ بالفضائل وكيفية اقتنائها لتتحلى النفس بها، وبالرذائل وكيفية توقيها لتتخلى عنها، فموضوعه: الأخلاق والملَكات والنفس الناطقة من حيث الاتصاف بها.

نحن إذًا أمام غموض في التأسيس النظري لمفهوم الأخلاق في التراث، وكذلك أمام تهميش للقرآن كإطار مرجعيّ حاكم في بناء التصورات الأخلاقية أو محاولة استكشافها. وقد أدرك عبد الحميد الفراهي هذا المعنى حين قال: إن علم الأخلاق "اتسع بأهله حتى تَشبثوا بكل ما راقهم وأعجبهم، فمنهم من يبنيه على الحكمة العملية التي تَلَقوها من الفلاسفة، ومنهم من يَعتمد على تجاربه، ومنهم من يَبنيه على الروايات الضعيفة. وربما يأخذون من القرآن حسب تأويلاتهم الركيكة؛ لظنهم أنه لا حاجة إلى صحة الاستدلال في الترغيب والترهيب، ومدْح الحسن وذمَّ القبيح" (الفراهي دت، أ، 12–13). وهذه الملاحظة ستتكرر مع آخرين كمحمد عبد اللّٰه دراز وفضل الرحمن (1408هـ/1988م)، فقد رأى دراز أن "الأخلاق القرآنية لم تكن الموضوع الرئيسي للدراسة والتقنين لدى المسلمين أو المستشرقين، لا من الناحية النظرية، ولا من الناحية العملية،" فمن جهة التراث لم تحتوِ مكتبتنا الإسلامية سوى على نوعين من التعاليم الأخلاقية: الأول: النصائح العملية التي هدفها تقويم أخلاق الشباب، والثاني: وصف لطبيعة النفس وملَكاتها ثم تعريف للفضيلة وتقسيم لها مرتّب—في غالب الأمر—بحسب النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي، أو عبر المزج بينهما. أي أن النص القرآني لا يظهر فيها كليةً، أو لا يكاد يظهر إلا بصفة ثانوية، فالنظرية الأخلاقية التي قدّمها علماء الأصول والكلام (حين بحثوا الحسن والقبح أو مقياس الخير والشر) والفقهاء (حين بحثوا شروط المسؤولية) وعلماء التصوف (حين بحثوا فاعلية الجهد وإخلاص النية والقصد) لم يَشغل القرآن فيها إلا صفة المُكَمَّل أو الشاهد أو البرهان على فكرة سبق الأخذ بها (دراز 1998, 4–8)، في حين نبّه فضل الرحمن إلى أن المسلمين "لم يحاولوا دراسة الأخلاق كما وردت في القرآن بطريقة ممنهجة أو غير ممنهجة؛" بالرغم من وجود "سَمْت أخلاقي" في القرآن يشكل العنصرَ الجوهريَّ فيه والرابطَ الضروريَّ بين اللاهوت والشريعة (Rahman 1982, 154–157). وقد شكا أيضًا عبد القادر المغربي (1956م/1375هـ) من قلة الكتابات الأخلاقية واتباعها فلسفةَ اليونان (المغربي 1925, 4–5)، ولكن عبد الرحمن الجزيري (1941م/1360هـ) كتب كتابًا في الأخلاق الدينية والحِكَم الشرعية عَوّل فيه على القرآن والسنة، وقال: "ولم أترك شيئًا من المباحث الفلسفية التي يحتاج إليها المقام وتنطبق عليه قواعد الدين الحنيف" (الجزيري دت، 1).

ثانيًا: آيات الأخلاق وآيات الأحكام

‫يمكن للمقاربة الأخلاقية للقرآن أن تأخذ أشكالاً متعددة كالبحث في المفاهيم الأخلاقية—كما فعل توشيهيكو إيزوتسو (Toshihiko Izutsu) مثلاً (2002 Izutsu)—أو دراسة النظرية الأخلاقية في القرآن على مستوى الخطاب، واستخلاص الشريعة الأخلاقية من القرآن في مجموعه، وصياغة مبادئها وقواعدها في صورة بناء متماسك مستقل عن كل ما يربطه بالمجالات القريبة منه—كما فعل محمد عبد اللّٰه دراز (دراز 1998, 4–8)—أو دراسة الحِجَاج والقَصص القرآني وهو ما لا نعلمُ أحدًا درَسه، ولكننا آثرنا هنا أن ندرس الجانب الأخلاقي من مدخل "آيات الأخلاق". وليس الهدف هنا حصرَ ولا تصنيفَ آيات الأخلاق أو البحث المباشر عنها في القرآن، استكشاف طرائق تفكير المفسرين القدامى في الجانب الأخلاقي في القرآن، ولذلك سنلجأ إلى دراسة تلك الآيات التي تم تصنيفها على أنها الأهم أخلاقيًّا، أو أنها تعبر عن أصول علم الأخلاق. وقبل أن أوضح المراد بالآيات الأهم أخلاقيًّا، يَجدر التعرض لإشكال التداخل بين الأخلاقي والفقهي الذي تُثيره تلك المقابلة بين "آيات الأخلاق" و"آيات الأحكام" من جهة، ومحاولات التمييز بينهما تاريخيًّا من جهة أخرى، ثم آتي بعد ذلك إلى تحديد آيات بعينها قيل: إنها جمعت أمهات الأخلاق أو أصولها.‬

‫إن التداخل بين المعاني والمجالات من حيث المبدأ أمرٌ مُقَرَّرٌ في نصًّ وخطابٍ كالخطاب القرآني لا يخضع للمقاييس البشرية المعتادة في التمييز والتصنيف، كما أنه في حالة عدم استقرار مفاهيم مثل "الأخلاق" بوصفها صناعةً أو مجالاً إسلاميًّا متمايزًا عن صناعة الفقه يغدو من الطبيعي حصول ذلك التداخل والامتزاج الذي دفع أحد الباحثين المعاصرين إلى القول: إن الناس في الزمن الأول لم يكونوا يَفصلون بين آيات الأخلاق وآيات الأحكام، وإن هذا التداخل بل الوحدة بين الأحكام والأخلاق في القرآن جعلت علماء الإسلام يرون في علم الفقه غَناءً عن الاشتغال بعلم الأخلاق (الجابري 2014, 60–61)، ولكنّ الدراسة المدقَّقة لمسار التفكير الإسلاميّ—تاريخيًّا—يمكن أن تؤدي إلى فهم مختلف للعلاقة بين الفقه والأخلاق، وأن فكرة الاستغناء بالفقه لم تكن محلّ تسليم، خصوصًا بالنظر إلى ما آل إليه الحال باتجاهين: الأول: اتجاه الزهد وأهل السلوك وهو الاتجاه الذي نتج عنه مدرسة الحارث المحاسبيّ (857م/243هـ) في مقابل مدرسة الفقهاء ممثَّلةً في أحمد بن حنبل (855م/241هـ) في بغداد على سبيل المثال. والاتجاه الثاني تَمَثل في نزوع المحدثين إلى التصنيف في الآداب وجَمْع أحاديثها في كتب مستقلة، ومن أبرزهم محمد بن إسماعيل البخاري (870م/256هـ) على سبيل المثال.‬

وقد بقيت مشكلة التداخل محلَّ نظر وإدراك من قِبَل العلماء اللاحقين، فأبو بكر بن العربيّ قسّم علوم القرآن إلى ثلاثة، ثم قال: "لا تخلو آيةٌ من القرآن بل حرفٌ عن هذه الأقسام الثلاثة" (ابن العربي 1992, 3: 1048)، ويعني بها العقائد والأحكام والتذكير، وهو ما يشير إلى معنى تركيبي للمجالات الثلاثة يتوارد على الجملة الواحدة دون انفصال، وأقر الغزالي أيضًا بصعوبة الفصل بين ما أسماه الآيات الجواهر والآيات الدُّرَر—وسنوضح مراده بهما لاحقًا—وقال: "قد يُصادَف كلاهما منظومًا في آية واحدة فلا يمكن تقطيعها فننظر إلى الأغلب من معانيها" (الغزالي 1990, 84). ويمكن أن نلمس أحد مظاهر هذا التداخل في ورود "آيات أصول الأخلاق" التي سنبحثها في عددٍ من كتب "أحكام القرآن"، وهو ما قد يرجع إلى التداخل الواقع بين الأحكام والأخلاق، أو إلى اتساع مفهوم الأحكام ليشمل الأحكام الأخلاقية والاعتقادية أيضًا، ولكن إيراد تلك الآيات الأخلاقية في سياق آيات الأحكام يمكن أن يكون له دوافع أو مسوّغات أخرى سنأتي عليها لاحقًا؛ ما يؤكد فكرة غلَبة النظر الفقهي في معالجة هذا النوع من الآيات الذي تم الاعتراف بأنَّ له مَزيةً؛ لتَضَمنه معانيَ أخلاقية جامعةً، ويستبطن فكرة التمييز بين ما هو فقهي وأخلاقيّ وإلا لم يكن لتلك المزية معنىً. ولمواجهة هذا التداخل وجد الأئمة السابقون في معيار الغلَبة معيارًا إجرائيًّا كافيًا للتمييز بين المجالات كما فعل الغزالي، وهو المعيار الذي مشى عليه آخرون؛ فقد أشار السيوطي إلى أنه "قد أَفردَ الناس كُتُبًا فيما تَضَمَّنَهُ القرآن من الأحكام، وأفردَ آخرون كُتُبًا فيما تَضَمَّنه من علم الباطن" (السيوطي 1974, 4: 40)، وعلم الباطن يرادف—عندهم— علم الأخلاق أو يتضمنه على الأقل؛ لإدراكهم أن فقه أعمال الجوارح ليس كافيًا، والسيوطي وإن لم يُسمَّ تفاسير في هذا المعنى، فإنه يعني تفاسير الصوفية وأرباب الإشارات، ولكن عبد القادر المغربي الذي انتقد قلة الكتابات الأخلاقية في المكتبة الإسلامية انتقد أيضًا كتابات الصوفية بأنها رغم أهميتها "إنما أُلفت بلسان اصطلاحي لا يفهمه إلا طبقة خاصة من الأمة" (المغربي 1925, 4–5) فهو لم يرَها وافيةً بالمسألة الأخلاقية.

وبما أن المفسرين والفقهاء قد استساغوا تقسيم آيات القرآن والمفاضلة بينها، وغلّب بعضهم جانبًا على آخر من جوانب القرآن حتى أصبح نهجًا متَّبعًا، فمن المشروع التساؤل عن غياب تعبير "آيات الأخلاق" أو عن عدم وجود تفاسير تُبرز الجانب الأخلاقي، خصوصًا مع وجود إشارات عدة إلى وجود آية أو أكثر "جامعة لمكارم الأخلاق" أي أن لها مزية على ما سواها. فالواقع يوضح—كما لاحظ دراز بدقة—أن "النصوص القرآنية ذات المغزى الأخلاقي قد غرقت بطريقة غامضة وسط نصوص تتصل بموضوعات فقهية، أو أصولية، أو كلامية، أو كونية، أو غيرها؛" لأن النصوص المتعلقة بالنظرية الأخلاقية ليست بالكثرة والوضوح اللَّذَين تمتاز بهما الأحكام العملية، خصوصًا مع غموض مفهوم الأخلاق—كما سبق—وعدم الاحتفاء به في الأدبيات الإسلامية المبكرة، وعدم استقراره بوصفه علمًا مع غلَبة الموروث اليوناني عليه، وغلبة الانشغال الفقهي على المفسرين، وغلبة الانشغال بالأخلاق الدينية على المتصوفة.

بدأ الانشغال بـتمييز "آيات الأحكام" عن باقي آيات القرآن مع مقاتل بن سليمان (150هـ/767م) الذي جمع خمسمئة آية "في الأمر والنهي والحلال والحرام"، وتُظهر الآيات التي جمعها والأبواب التي وضعها المنحى الفقهي بوضوح، بل إن مُقاتلاً يَحرص على تفسير "الكلم الطيب" و"العمل الصالح"—وهما تعبيران مُشبَعان بالإحالة الأخلاقية—بالتوحيد، فلا نكاد نعثر لديه على إحالات إلى معانٍ أخلاقية بالمعنى الذي شرحناه (مقاتل 1980, 13–14)، ولذلك يَصعب العثور على فكرة تمييز الآيات المتصلة بالأخلاق في الأزمنة المبكرة، وصولاً إلى الغزالي الذي ميز بين قسمين محددين من الآيات وفق معيارين: الأول: القابلية للإحصاء والحصر، فالأصناف الباقية أكثر من أن تُحصى، والثاني: تَضَمُّن الآيات للمهمّ الذي لا مندوحة عنه، ولذلك سماهما: الجواهر والدُّرَر. وهذان الصنفان هما: الآيات الخاصة باقتباس أنوار المعرفة (الجواهر) وهي (763 آية)، والاستقامة على سواء الطريق بالعمل (الدرر) وهي (741 آية). والمراد هنا معرفة اللّٰه تعالى وسلوك الطريق إليه وما يتفرع عن ذلك كله، فالأول علمي والثاني عملي، وأصل الإيمان العلم والعمل، وقد غلب على القسم الأول الآيات المتصلة بالاعتقاد، ودخل في القسم الثاني الآيات المتصلة بالسلوك الأخلاقي سواءٌ في العلاقة مع اللّٰه (الأخلاق الدينية) أم في العلاقة مع الناس (الأخلاق الاجتماعية)، وقد سردها سردًا دون أن يوضح إطارها النظري أو أن يصوغها في وحدة موضوعية (الغزالي 1990, 84–211). ثم جاء عبد القادر المغربي فجمع طائفةً من الآيات والأحاديث قال: إنها "تتضمن ألوانًا مختلفة من الأخلاق والواجبات"، واكتفى بسردها أيضًا، وقال: إنه يجب حَمل الطلاب على استظهارها (المغربي 1925, 209–218)، ولكن دراز حقق خطوة متقدمة في هذا الاتجاه حين جمع آيات الأخلاق العملية واختار ما له دلالة كافية على القواعد المختلفة للسلوك (مع نفسه، وفي الأسرة، والمجتمع، ثم مع الحكام والمحكومين والدول والمجتمعات، ثم مع اللّٰه)، واتبع نظامًا منطقيًّا بدلاً من التزام نظام السرد عبر ترتيب سور القرآن الذي اتبعه الغزالي، بالإضافة إلى أنه جمعها في فصول بحسب نوع العلاقة التي سيقت القاعدة الأخلاقية لتنظيمها (دراز 1998, 689).

وبعيدًا عن فكرة الجمع والإحصاء للآيات، ثمة ملحظٌ آخر يتصل بهذا المعنى، وهو رَصدُ تلك الآيات "الجامعة" أو "الجوامع"، أي التي جمعت أمهات الأخلاق أو مكارم الأخلاق، فقد كان لافتًا أن الرازي حين ذكر اشتمال القرآن على "علم تصفية الباطن أو رياضة القلوب" قال: "والقرآن يشتمل على كل ما لا بد منه في هذا الباب. قال اللّٰه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النحل: 90]، وقال: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]" (الرازي 1999, 26: 444–445)، وحين ذكر في موضع آخر اشتمال القرآن على "علم الأخلاق" قال: "وقد حصل في القرآن من مباحث هذا العلم ما لا يكاد يوجد في غيره، كقوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف: 199]، وقوله: ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾ [النمل: 90]" (الرازي 1999, 17: 253)، وقد تابعه على هذا آخرون منهم برهان الدين البِقاعي (1481م/885ه) الذي قال: "وعلم الأخلاق كثيرٌ في القرآن، مثل: ﴿خُذِ الْعَفْوَ ﴾ [الأعراف: 199] و﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: 90] وأمثالهما" (البقاعي 1984, 9: 121–122)، وقال نظام الدين النيسابوري: "وما من علم إلا وفي القرآن أصله، ومنه شرفه وفضله … كقوله ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ للأخلاق" (النيسابوري 1995, 76). أي أن أصول علم الأخلاق تتمثل في آيتين: ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ و﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾، وهما—وإن وردتا على سبيل التمثيل لا التحديد—مما قيل فيه: إنه جمع مكارم الأخلاق واستُدلّ به على "جوامع الكلم" وبلاغة الإيجاز كما سنوضح.

وثمة تحديداتٌ أخرى هي أقربُ إلينا زمنيًّا، كتلك التي نقف عليها مع إسماعيل حقي الحنفي الخلوتي (1715م/1127هـ) الذي رأى أن مجموع التكاليف في أعمال الجوارح وأعمال القلوب (ومنها علم الأخلاق) مُندرجٌ في قوله تعالى: ﴿وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّّٰهِ﴾ [التوبة 112]، ومعنى "حدود اللّٰه": "ما بيَّنه اللّٰه وعيَّنه من الحقائق والشرائع؛ عملاً وحَمْلاً للناس عليه"، فالتكاليف الشرعية لها أصناف وأقسام كثيرةٌ،"والفقهاء ظنوا أن الذي ذكروه فى بيان التكاليف وافٍ، وليس كذلك؛ لأن أفعال المكلفين قسمان: أفعال الجوارح وأفعال القلوب، وكتب الفقه مشتملة على شرح أقسام التكاليف المتعلقة بأعمال الجوارح. وأما التكاليف المتعلقة بأعمال القلوب فليس فى كتبهم منها إلا قليل نادر، وبعض مباحثها مدوّن فى الكتب الكلامية، والبعض الآخر منها فصّله الإمام الغزالي وأمثاله فى علم الأخلاق" (الحنفي الخلوتي دت، 3: 520). يبدو المنزع الصوفيّ في هذا الفهم واضحًا؛ خصوصًا أنه نقل عن القُشَيري (1074م/465هـ) تفسيرَه لها بقوله: "هم الواقفون حيث وقفهم اللّٰه، الذين لا يتحركون إلا إذا حَرَّكَهم، ولا يَسْكنُون إلا إذا سكّنهم، ويحفظون مع اللّٰه أنفاسَهُم (القشيري 2000, 2: 68). ويذهب عبد القادر المغربي إلى أن سورة العصر تضمنت "أمهات الأخلاق الفاضلة"، وهي: الأعمال الصالحة، والإيمان، والحق، والصبر (المغربي 1925, 4)، ويرى عبد الحميد بن باديس (1359هـ/1940م) أن الآيات (37–39) من سورة لقمان ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ هي المعبرة عن أصول الأخلاق قائلاً: "لهذه المعاني التي تتصل بتفسير هذه الآية الكريمة—وهي أصول في علم الأخلاق—عَنْوَنَّا عليها بآية الأخلاق" (ابن باديس 1995, 109). أما الطاهر بن عاشور (1973م/1393هـ) فقد رأى في الآيات الخاصة بموعظة لقمان لابنه أنها جمعت "أصول الشريعة وهي: الاعتقادات، والأعمال، وأدب المعاملة، وأدب النفس" (ابن عاشور 2000, 21: 154)، بالرغم من أن تعبير "جمعت أصول الشريعة" يتكرر لديه في أكثر من مناسبة.

ثالثًا: آيات أصول علم الأخلاق

وبعيدًا عن تلك المحاولات الحديثة لتحديد آيات الأخلاق، يكاد يكون ثمة اتفاق عامٌّ بين المفسرين القدامى على مركزية آيتي ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ و﴿خُذِ الْعَفْوَ ﴾، ولذلك سنخصهما بالدراسة والتحليل هنا، فضلاً عن ورود بعض الآثار والروايات التي تؤكد ذلك المعنى؛ مما يُضفي على الآيتين دلالة خاصة في علم الأخلاق، ويفسر لماذا مثلتا أصول علم الأخلاق في نظر الرازي وغيره.

في آية ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ وردت روايات عديدة تُبيّن مركزية الآية وفضلَها بين آيات القرآن، كما تلح على مضمونها الأخلاقيّ المتميز، من ذلك ما يرويه مقاتل بن سليمان من أنه "لما نزلت هذه الآية بمكة قال أبو طالب بن عبد المطلب: يا آل غالب! اتبعوا محمدًا—صلى اللّٰه عليه وسلم—تُفلحوا وتَرْشدوا. واللّٰه إن ابن أخي لَيَأمر بمكارم الأخلاق وبالأمر الحسن، ولا يأمر إلا بحسن الأخلاق. واللّٰه لئن كان محمد—صلى اللّٰه عليه وسلم—صادقًا أو كاذبًا؛ ما يدعوكم إلا إلى الخير. فبلغ ذلك الوليدَ بنَ المُغيرة فقال: إن كان محمد—صلى اللّٰه عليه وسلم—قاله فنِعْمَ ما قال، وإن كان إلهه قاله فنِعْم ما قال" (مقاتل 2002, 2: 483–484)، ويُورد ابن عطية شبه هذه القصة عن عثمان بن مظعون أنه قرأها على علي بن أبي طالب (ابن عطية 2001, 3: 416). ويتردد معنىً شبيهٌ بذلك في رواية أخرى تُفيد أن الوليد بن المغيرة قال لرسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم: "اقرأ عليّ. فقرأ عليه ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾. قال: أَعِد، فأعاد النبي صلى اللّٰه عليه وسلم. فقال: واللّٰه إن له لَحلاوة، وإن عليه لَطلاوة، وإن أعلاه لَمُثمر، وإن أسفله لَمُغدق وما يقول هذا بشر" (البيهقي 1981, 268، والبيهقي 2003, 1: 287).

وإذا كانت تلك الروايات توضح أثر الآية على المشركين في مكة في بداية الإسلام وما تعكسه من خطابٍ قرآنيّ جاذب ومُعجِب، فإن ثمة روايات أخرى عن بعض الصحابة ومَن بعدهم تؤكد استمرارية الإمساك بالمعنى الأخلاقي نفسه، من ذلك ما رُوي عن عبد اللّٰه بن مسعود أنه قال: "إن أَجْمَعَ آية في القرآن لخيرٍ وشرًّ آيةٌ في سورة النحل"، وذكر الآية (الطبراني 1994, 9: 132، والحاكم 1990, 2: 388، والبيهقي 2003, 4: 83)، وقولُ الحسن البصريّ (728م/110هـ): "إن اللّٰه جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة. فواللّٰه ما تَرَك العدل والإحسان شيئًا من طاعة اللّٰه عز وجل إلا جمَعه، ولا تَرَك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية اللّٰه شيئًا إلا جمَعه" (أبو نعيم 1974, 2: 158، والبيهقي 2003, 1: 295)، وقولُ قَتَادة بن دِعامة السَّدُوسيّ (736م/118هـ): "إنه ليس من خُلُق حسَن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر اللّٰه به، وليس من خُلُق سيء كانوا يَتَعايرونه بينهم إلا نهى اللّٰه عنه وقدَّم فيه، وإنما نهى عن سَفاسف الأخلاق ومَذامّها" (الطبري2001 , 14: 337).

وبخصوص آية ﴿خُذِ الْعَفْوَ ﴾، فقد جاء في بيان فضلها وأهميتها أنه لما نَزلت قال النبي صلى اللّٰه عليه وسلم: "ما هذا يا جبريل؟ قال: إن اللّٰه يأمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حَرَمك، وتَصل من قطعك" (الطبري 2001, 10: 643)، وأن جعفر الصادق (765م/148هـ) قال: "أمر اللّٰه نبيه صلى اللّٰه عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية"، وقد استشهد بهذا القول عامةُ المفسرين كالثعلبي (1035م/427هـ) والبغوي (1122م/510هـ) والزمخشري (1074م/538هـ) والرازي والقرطبي (1273مـ/671ه) والنسفي (1310م/710هـ) والخازن (1341م/741ه) وغيرهم (الثعلبي 2002, 4: 318، والبغوي 1999, 2: 260، والزمخشري 1989, 2: 190، والرازي 1999, 15: 435، والقرطبي 1964, 7: 345، والنسفي 1998, 1: 627، والخازن 1994, 2: 482).

تساعد هذه المرويات والأقوال على فهم سبب اعتبار هاتين الآيتين مُمَثّلتين لأصول علم الأخلاق، أي أن كون كلًّ منهما "جامعة" أو "أصلاً" لم يكن يستند إلى اختيار شخصي من بعض المفسرين فقط، بل إلى مأثورٍ أيضًا وربما أصالةً، وهو ما دفع إلى دراستهما، وإن كانت تلك المأثورات تُوْلي أهمية أكبر لآية ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾. ولكن لماذا هما آيتان جامعتان؟ وما الموضوع الذي يَغلب عليهما أو سيُشَكل عنوانَ التفكير فيهما؟.

تُحيل مجملُ الروايات السابقة حول الآيتين إلى موضوع "مكارم الأخلاق"، أو "الخلُق الحسَن"، أو "الخير والشر"، ولكن عند التدقيق سنجد أن الروايات عن ابن مسعود في آية ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ ستختلف اختلافًا دالاًّ، ففي بعضها سنجد أن الجامعيّة مُجملة غيرُ مبَّينة كما في رواية "أجمع آية في كتاب اللّٰه" (الصنعاني 1983, 3: 370، والطبراني 1994, 9: 133، والبيهقي 2003, 4: 55)، وفي بعضها تتم إحالة الجامعية إلى جهة اشتمالها على الأوامر والنواهي والحلال والحرام؛ كما في رواية: "ما في القرآن آيةٌ أَجمعُ لِحلالٍ وحَرامٍ، وأَمرٍ ونَهيٍ من هذه الآية" (البخاري 1998, 246، والطبراني 1994, 9: 134)، ما يعني أنها جامعية فقهية، وعن ابن مسعود تَفَرع فقه مدرسة العراق. ولكنّ حديثًا آخر يأخذنا إلى معنى أخلاقي أخصّ حيث يجعل من العدل قيمة مركزية في الآية؛ فقد سأل عمر بن الخطاب رَكبًا—فيهم عبد اللّٰه بن مسعود—أيُّ آية أعدل؟ فقالوا: ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ﴾ (الصنعاني 1998, 3: 449)، وفي رواية أخرى عنه أنه سألهم: أيُّ القرآن أحكَمُ؟ (السَّلَفِيّ 2004, 1: 247)، أي أنه رأى أنها أَحكَم آية من جهة أنه لا يَشتبه فيها المعنى ولا يُستَشكَل فيها شيء؛ لشدة بيانها. وليس من غرض البحث الخوض في صحة تلك الروايات عن ابن مسعود مع هذا الاختلاف، ولكن تَتَبع مناحي النظر والتفكير في آية واحدة.

وإذا ما تجاوزنا النظر في الروايات سنجد عامة المفسرين يصنفون الآيتين في موضوع "مكارم الأخلاق"، وإن كان بعضهم قد يُغَلَّب الجانب الفقهي فيهما، وبعضٌ آخر يجمع بين الفقهي والأخلاقي فيتحصل لدينا من هذا ثلاثة مواقف: الأخلاقي، والفقهي الغالب، والنظر الجامع بين الأخلاق والفقه.

أما التفسير الأخلاقي—وهو الغالب على المفسرين—فقد عبر عنه ابنُ عبد البر (461هـ/1069م) بقوله: "قالت العلماء: إن أَجمع آية للبر والفضل ومكارم الأخلاق: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾" (ابن عبد البر 1967, 24: 334)، بل إن أبا طالب المكيّ (386هـ/996م) جعل هذه الآية "قُطْب القرآن" فقال: "هذه الآية كلها جامعة لمعنى الصبر، وهي قطب القرآن، ثلاث منها—وهي الأُوَل—الصبر على العدل والإحسان والإعطاء، وثلاثٌ منها: الصبر عن الفحشاء والمنكر والبغي" (المكي 2005, 1: 329). ولكنْ ثمة رأي آخر تم الاحتفاء به خارج كتب التفسير، وهو أن هذه الآية تمثل "جِماعَ المروءة"، وأن علي بن أبي طالب والحسن البصري قد رَأَيَا أن اللّٰه كفانا معنى المروءة وبيانَ خصالِها بهذه الآية، وهو رأيٌ يَرِد أيضًا عن سفيان بن عُيَينة (198هـ/815م) وسفيان الثوري (161ه/778م) الذي يرى أن "الأمر لا يتم إلا بالعدل وهو الإنصاف، والإحسان وهو التفضل" (ابن المرزبان 1999, 45, 97, 105, 109, والخرائطي 1999, 128، وابن عرفة 2014, 9: 245). ويُورد الراغبُ هذا القول عَرَضًا دون أن يحتفي به في كتاب "الذريعة" (الراغب الأصفهاني 2007, 117)، ولا يأتي على ذكره مطلقًا في تفسيره، كما أن القول لا يَرد في كتاب "أدب الدنيا والدين" رغم أنه عَقَد فصلاً خاصًّا للحديث عن المروءة، واكتفى بالنقل عن بعض البلغاء أن "من شرائط المروءة أن يَتَعفف عن الحرام، ويَتَصلف عن الآثام، ويُنْصف في الحكم، ويَكُفّ عن الظلم، ولا يَطمع فيما لا يستحق، ولا يَستطيل على من لا يَسترِقّ، ولا يُعين قويًّا على ضعيف، ولا يُؤثر دَنِيًّا على شريف، ولا يُسِرّ ما يَعقبه الوِزر والإثم، ولا يفعلَ ما يُقَبِّح الذكرَ والاسمَ" (الماوردي 1986, 317)، وثمة تقاطعٌ بين هذه المعاني وبعض معاني الآية خصوصًا في الأمر بالعدل والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، وقد جعل بعض الباحثين "أخلاق المروءة" هي القيمة المركزية التي تدور عليها منظومة الأخلاق عند العرب قبل الإسلام (الجابري 2014, 491)، ما يعني أن مَنْ جعل الآية في المروءة نَزَّلها على معهود العرب في الأخلاق، وهو المعنى الذي أفاده أيضًا كلام قَتَادة السابق.

أما الجمع بين الأخلاق والفقه فقد عبّر عنه الرازيُّ فقال في ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾: "جَمَع في هذه الآية ما يتصل بالتكليف فرضاً ونفلاً، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموماً وخصوصاً" (الرازي 1999, 20: 81، والنيسابوري 1995, 4: 300).

وأما تغليب النظر الفقهي فقد عبرّ عنه الطاهر بن عاشور فقال في ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾: "جامعةٌ أصولَ التشريع"، وهي: الأصل الجامع للحقوق الراجعة إلى الضروري والحاجي (من الحقوق الذاتية، وحقوق المعاملات وما يتفرع عنها من المعاملات الاجتماعية)، وأصول وفروع آداب المعاشرة كلها في العائلة والصحبة، وأصول المفاسد (ابن عاشور 2000, 14: 258)، ويمكن أن نجد تغليب النظر الفقهي في الكتب الخاصة بأحكام القرآن التي ضمّت الآيتين محلّ البحث إلى "آيات الأحكام" كما نجد لدى إلكيا الهرّاسي الشافعي (504هـ/1110م)، وابن العربي المالكي، والجصاص الحنفي (370هـ/980م)، وقد غلَب المنحى الفقهي خصوصًا في آية ﴿خُذِ الْعَفْوَ ﴾؛ لِمَا ارتبط بها من كلام حول القول بنسخها وأحكام قتال الكفار ومسالمتهم، وهو خلافُ ما فَهِمه رشيد رضا (1352هـ/1934م) الذي رأى أن "أكثر ما كَتَب المفسرون في هذه الآية ما دلّت عليه من الآداب، وأقلّه ما اشتملت عليه من أصول الأحكام"، وقرر أن آية ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾ "بيانٌ لأصول الفضائل الأدبية وأساس التشريع، وهي التي تَلِي في المرتبة أصولَ العقيدة المبنية على التوحيد" (رضا 1990, 9: 444, 449)، ولذلك انشغل ببيان أنها أمرٌ بأشياء ثلاثة هي: "أصول كلية للقواعد الشرعية والآداب النفسية والأحكام العملية".

ويمكن لنا أن نرصد موقفًا رابعًا هنا يعبر عنه ابن العربي؛ إذ يمضي أوسعَ من ذلك فيجعل آية ﴿خُذِ الْعَفْوَ ﴾ جامعةً لأصول الدين فيقول: "تَضَمَّنت قواعد الشريعة فيما يتعلق بالمأمورات والمنهيات، حتى لم يَبْق فيه حسنةٌ إلا أوضحَتْها، ولا فضيلة إلا شرحتها، ولا أُكرومة إلا افتتحتها، وأخذت الكلماتُ الثلاثُ أقسامَ الإسلام الثلاثة" (ابن العربي دت، 2: 826)، أي خذ العفو (الرفق في الدعاء إلى الدين) وأْمُرْ بالعرف (الشريعة: المأمورات والمنهيات) وأَعْرِض عن الجاهلين (الأخلاق: الصفح بالصبر).

وقد ظهر اختلاف مدارك المفسرين في اختلاف تفسيرهم لخاتمة آية ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ التي يأتي فيها ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، فابن عباس فسر (يعظكم) بيوصيكم، ومقاتل وغيره فسروها بيؤدبكم، والطبري بيذكّركم، على حين قال البيضاوي: "يَعِظُكُمْ بالأمر والنهي والمَيْز بين الخير والشر" (البيضاوي 1997, 3: 238)، وذهب ابن كثير (774هـ/1373م) إلى أن معناها: "يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر"، أي أن "الموعظة" التي تَحَدث عنها ابن العربي—فيما سبق—وأنها أحد علوم القرآن المركزية احتاجت إلى تفسير هنا، وأن التفسيرات عكست الموقفَ من الآية بين النظرين الأخلاقي والفقهي، كما أن تفسيرها بيؤدبكم يُثير إشكالاً حول مفهوم الأدب؛ خصوصًا مع تفسير العدل بالفرائض أو بشهادة التوحيد، ما يعني أن المذكورات قبلُ ليست آدابًا ولا مكارم على المعنى الذي استقر لاحقًا، أو أن مفهوم الأدب والتأديب كان يتضمن معنى مختلفًا.

وقد تضمنت الآيتان أبعادًا أخرى تتجاوز الأخلاقي والتشريعي إلى الجانب البلاغي والإعجازيّ، كالقول: إنهما من جوامع الكلم؛ لِمَا اتصفتا به من الإيجاز الجامع، وهو أن يحتوي اللفظ على معان متعددة (السيوطي 1974, 2: 146–147)، وكقول البيضاوي في آية ﴿إِنَّ اللَّّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾: "لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصَدَق عليه أنه تِبيان لكل شيء وهدى ورحمة للعالمين" (البيضاوي 1997, 3: 238)، وهو المعنى الذي تُفيده بعض الروايات المذكورة سابقًا عن الوليد بن المغيرة وإسلام عثمان بن مظعون بسببها وغير ذلك.

وإذا كان المأثورُ حول الآيتين قد حَمَل على القول بمركزيتهما الأخلاقية، فمن المثير للاهتمام تَأَمل سياق القول باحتواء القرآن على مختلف العلوم—ومنها علم الأخلاق—وهو سياق تفسير آية ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾ [يونس 37]، فكَوْن الكتاب مُفَصَّلاً دفع الرازي ومَن بعده—كالبقاعي وابن عادل الحنبلي (775ه/1373مـ)—إلى القول: إن التفصيل هنا معناه اشتماله على "تفاصيل جميع العلوم الشريفة، عقليّها ونقليّها، اشتمالاً يمتنع حصوله في سائر الكتب، فكان ذلك مُعجِزًا" (الرازي 1999, 17: 77)، فهو "الجامع المجموع فيه الحِكَم والأحكام وجوامع الكلام" (البقاعي 1984, 9: 121)، على حين أن مقاتل بن سليمان فسر (تفصيل الكتاب) بأنه "الحلال والحرام" (مقاتل 2002, 2: 238)، وأضاف البيضاوي إلى الشرائع: العقائد، وفسرها ابن أبي زمنين (399هـ/1009م) "بالحلال والحرام والأحكام، والوعد والوعيد"، وذهب المراغي (1364هـ/1945م) إلى أن معناها "تفصيل ما كُتب وأُثبت من الشرائع والأحكام والعِبَر والمواعظ وشؤون الاجتماع" (البيضاوي 1997, 3: 198، وابن أبي زمنين 2002, 2: 257، والمراغي دت، 11: 107). فهذه التفسيرات مختلفة الأزمنة تُحيل إلى أن النظر الأخلاقي المبني على الآية لم يكن مركزيًّا كما أنه حادثٌ بعد أن كان محصورًا في النظر الفقهي.

رابعًا: تأويل المفردات الأخلاقية والبحث عن إطار نظري

تَضَمنت الآيتان مفردات هي: (العدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، والفحشاء، والمنكر، والبغي، والعفو، والعرف، والإعراض عن الجاهلين)، ومن المهم تَأَمُّل تفسيرات هذه المفردات لاستكشاف طبيعة الرؤية الأخلاقية التي يعكسها فهم المفسرين لها، وهل حمَلوها على معانٍ محددة: فضائل أو رذائل أو أحكام، أم جعلوها أقرب إلى المفاهيم الكبرى؟ وهل غلَبت عليهم الرؤى الكلية أو الجزئية؟ وهل تعكس تفسيراتهم إطارًا نظريًّا أخلاقيًّا؟

يتفق العديد من الباحثين—كدراز وإيزوتسو وفضل الرحمن والجابري، ومن قبلهم الشاطبي (790هـ/1388م)—على أن القرآن شهد ولادة دستور أخلاقي، وأجرى تعديلات على القيم الجاهلية في الشكل والمضمون، وصاغ أفكارًا ومفاهيم أخلاقيّة شكّلت دستورًا جديدًا، ولهذا لم يَلقَ—فيما يبدو—خلُق "المروءة" العربيّ الجاهليّ اهتمام المفسرين حين تَعرضوا للآيتين، فبقايا المواريث الجاهلية باديةٌ في التعريف السابق الذي ساقه الماوردي عن بعض البُلَغاء، أي أن المفسرين حرصوا على إبراز تَمَيز الآية، وإحالتُها إلى خلُق المروءة لا يساعد على ذلك.

‫ويُعدّ توشيهيكو إيزوتسو من أهم مَن درَس المفاهيم الأخلاقية في القرآن دراسة دلالية، وتوصل إلى وجود ثلاثة أصناف من المفاهيم الأخلاقية: الصنف الأول يصف الطبيعة الأخلاقية للحق سبحانه وتعالى وصفاته (الأخلاق الإلهية) وقد بحث هذا علماءُ الكلام، والصنف الثاني يصف الجوانب المختلفة للموقف الأصلي للإنسان من اللّٰه تعالى (الأخلاق الدينية) وقد بحثها المتصوفةُ وخصَّها إيزوتسو بالدراسة قرآنيًّا، والصنف الثالث يصف مبادئ السلوك وقواعده التي تنظم العلاقات الأخلاقية بين الأفراد (الأخلاق الاجتماعية)، وهي ما تَطَور إلى المنظومة التشريعية الضخمة، وقد عالج جزءٌ من دراسة دراز هذا الجانب. هذه الأصناف الثلاثة شديدة الترابط؛ لأن نظرة القرآن إلى العالم مرتكزة على "اللّٰه" أساسًا، فبما أن اللّٰه تعالى—وفق التصور القرآني—ذو طبيعة أخلاقية ويتعامل مع الإنسان بطريقة أخلاقية، فالمفترض بالإنسان أن يستجيب لذلك بطريقة أخلاقية، أي أن يمتثل للأوامر والنواهي والتوجيهات، أي التخلق بأخلاق اللّٰه (Izutsu 2002, 16–17).‬

‫1مفردات الآيتين: مقاربة تحليلية

وبالنظر إلى تأويلات المفسرين لمفردات الآيتين، نلاحظ الاختلاف الشديد في تحديد مدلول كل مفردة؛ حتى إن تفسير المفردة الواحدة قد يَصِل إلى تسعة أقوال متمايزة أو متداخلة، فلا نكاد نجد مفردةً منها وقع الاتفاق عليها، وسنحاول أن نحصر هنا دلالات المفردات السابقة بحسب أقوال المفسرين1 لنصل إلى بعض الخلاصات التحليلية في الإجابة على الأسئلة السابقة مطلعَ هذا المحور.

تنحصر دلالات (العدل) في: (1) التوحيد أو شهادة ألا إله إلا اللّٰه، أو الحق الذي له عليهم (2) الحكم بين الناس (3) فيما بينه وبين اللّٰه (في مقابل الإحسان: فيما بينه وبين الناس) (4) أداء الفرائض، (في مقابل الإحسان الذي هو الندب أو النافلة. وبعض الحنفية عبّر بالواجب، وآخرون عبروا بالفرض)، أو كل مفروض من العقائد والشرائع في أداء الأمانات وتَرْك الظلم والإنصاف وإعطاء الحق، ويدخل فيه حدُّ الإجزاء، (5) الإنصاف وترك الجَور، (6) التوسط في الأمور اعتقادًا وعملاً وخلُقًا، أو التوسط بين الإفراط والتفريط في الاعتقادات والتكليفات (7) استواء السريرة والعلانية، (8) إعطاء الحق لصاحبه وهو الأصل الجامع للحقوق، (9) وَضْعُ كل شيء موضعه، ويدخل فيه كل شيء: التوحيد وغيره.

وتنحصر دلالات (الإحسان) في: (1) العفو أو التفضل، أو المعاملة بالحسنى (2) إلى الناس أو بعضكم لبعض، أو بين الناس فيما أُذن فيه (3) إلى أنفسهم، (4) مطلق الإحسان، (5) أداء الفرائض، (6) الندب، أو كل مندوب إليه (7) أن تَعبد اللّٰه كأنك تراه، (8) إحسان الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية، أو الزيادة فيها بحسب الكمية والكيفية والدواعي والصوارف، التكميل في مقابل العدل الذي هو الإجزاء، أو الزيادة في الطاعات (9) أن تكون سريرته أفضل من علانيته.

أما دلالات (إيتاء ذي القربى) فتنحصر في: (1) جميع بني آدم، (2) ذوي الأرحام، وأدنى ما تقع به الصلة تَرك الأذى، وأن يحب له ما يحب لنفسه (3) إيفاء الحقوق.

(الفحشاء) تنحصر دلالتها في: (1) المعاصي، (2) الكذب، والغيبة والنميمة وما كان من الأقوال (3) الزنا، (4) البخل، (5) أن تكون علانية المرء أقبح من سريرته، (6) ما ظهر قُبحه في العقل والسمع، أو سائر القبائح والأفعال والأقوال والضمائر، أو اسم جامعٌ لكل عمل أو قول تستفظعه النفوس.

و(المنكر) تنحصر دلالتها في: (1) الشرك وما لا يُعرف من القول، (2) المعاصي وما كان من الأفعال، (3) ما ظهر الإنكار فيه على مرتكبه، أو كلّ ما يكون منكرًا في الدين (4) كل قول وفعل قبيح (5) الكذب، (6) السُّكر.

و(البغي) تنحصر دلالتها في: (1) ظلم الناس، أو مظالمهم (2) الكِبر، (3) الغيبة، (4) نوع من الفحشاء.

و(العفو) تنحصر دلالتها في: (1) من الظلَمة، (2) من المشركين، (3) الخلق الحسن، أو من الأخلاق، أو الحِلم، (4) من الأموال، (5) الفَضل من المال سوى الزكاة، (6) الزكاة، (7) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (8) اليُسر أو التسهيل والتيسير، أو اللين ونفي الحرَج، أو التسامح والرفق2.

و(العرف) تنحصر دلالتها في: (1) كل ما عرفته النفوس مما لا يردّه الشرع، أو العوائد الجارية مما لا يرده الشرع، (2) المعروف، وهو كل ما أمر اللّٰه به أو نَدب إليه فهو عامٌّ، يتناول جميع المأمورات والمنهيات أو ما يُعرف من الدين، أو المحاسن التي اتفقت عليها الشرائع، (3) أفعال الخير، (ولكن غير واضح إن كان مصدر الخير العرف أو الشرع) (4) التلطف في الأمر والنهي، (5) كَف الأذى وغَض البصر وما شاكلهما من المحرمات، (6) أن تَصل مَن قطعَك وتعطي من حرَمك وتعفو عمن ظلمك، (7) لا إله إلا اللّٰه، (8) ما حسُن في العقل.

و(أعرض عن الجاهلين) تنحصر دلالتها في: (1) مداراة الكفار، (2) الصفح واللين، عام في غير الكفار باحتمال الظلم والاعتداء لا بالإعراض عمن جَهل الواجب عليه من حق اللّٰه ولا بالصفح عمن كفر باللّٰه وجهل وحدانيته وهو للمسلمين حرْبٌ، (3) الصبر، والحلم والتؤدة، وتَرك مخاوضتهم في الباطل.

هذا الاختلاف الواسع في التعبير عن معنى مفردات الآيتين ليس هو اختلافَ تضاد بالضرورة، وهو يُحيل إلى عدة دلالات:

الأولى: أن الاختلاف نفسه دليلٌ على أن تلك المفردات احتاجت إلى تفسير وبيان، وأنها محتملة لدلالات متعددة وواسعة حتى أمكن التعبير عنها بكل هذا، فهي ليست "نصًّا"—بالمصطلح الأصولي—لا يحتمل إلا معنى واحدًا.

الثانية: أن مقاربة المفردات القرآنية لدى المفسر لم تكن تمشي— دائمًا—وفق نسق كلي، فكثيرًا ما تكون محكومة بسياق الآية، وبما يستحضره المفسر من إشكالات قد تَرد على تفسير المفردة فيتحرز عنه بالتقييد أو التخصيص أو بعبارة حذرة كالقول—مثلاً—"فيما أُذن فيه" بالنسبة للعفو، أو "بما لا يَرُدّه الشرع" بالنسبة للعرف، ليزيح شبهة التنافر أو ليحفظ انسجام منظومة التشريع أو ليرد على المخالِف.

الثالثة: أن فهم المفردة ينصرف تارةً إلى المفردة استقلالاً، وتارة إلى التركيب عبر السعي إلى رسم حدود معناها بناء على مقابلها أو مقارِنها (العدل مع الإحسان، والفحشاء في مقابل المنكر، مثلاً).

الرابعة: أن الاختلاف يُحيل أيضًا إلى عدم استقرار تأويل محدد لهذه المفردات عند المفسرين، على كثرة تَوَاردهم ونَقْل بعضهم عن بعض، ولذلك أصبح الهاجسُ—فيما بعد—حَصرَ الأقوال في المفردة الواحدة، كما نجد لدى أبي المظفر السمعاني (489هـ/1096م) وابن العربي مثلاً، رغم أنهما لم يستوعبا جميع الأقوال فقد أحصى السمعاني—مثلاً—في العدل ثلاثة أقوال، وفي الإحسان أربعة، وأحصى ابن العربي—مثلاً—في العرف أربعة أقوال.

ولكن هذا الاختلاف في التعبير عن المعنى مدفوعٌ بهاجس السعي إلى تصويره أو تقريبه بعبارة أو شيءٍ محدَّد؛ ويحصل هذا—عادة—في الألفاظ المجمَلة أو المبهَمَة أو المُشْكِلة أو التي بحاجة إلى بيان، ولذلك سنجد الراغب الأصفهاني (502هـ/1109م) أيضًا يتعرض لبيان مدلول هذه المفردات في كتابه الذي صنفه لبيان "غريب القرآن". ويمكن لنا أن نلحظ اتجاهين في تأويل المفردات السابقة: الأول منهما ينصرف إلى حَمل المفردات—في الغالب—على معنىً محدد أو مخصوص، كتفسير العدل بشهادة ألا إله إلا اللّٰه، وتفسير الفحشاء بالزنا، والمنكر بالسُّكر، وهو نزوعٌ نجده خاصةً في التفاسير المبكرة—كتفسير مقاتل ويحيى بن سلام (200هـ/816م)—أو في التفسير بالمأثور. والاتجاه الثاني ينصرف—في الغالب—إلى ضبط المعنى الكلي أو المفهوم ليشمل أوسع مدى ممكن، وهذا اتجاه واسعٌ نجده لدى الراغب الأصفهاني وابن العربي والرازي والبيضاوي وغيرهم، ويمكن أن يُعزى لأكثر من سبب، ويؤثر فيه تكوين المفسر، ويَغلب على مَن له تكوين فلسفي كالرازي، أو فقهيٌّ كإلكيا الهَرَّاسي وابن العربي وابن الفرَس (597هـ/1201م)، أو من له تَوَجه أخلاقي كالراغب الأصفهاني.

لا يبدو أن الإجمال أو الإبهام هو السبب في تَعَدد أقوال المفسرين وتَحَيُّرهم في المعنى المراد، واضطرابِ بعضهم في التوفيق بين الأقوال المختلفة، فثمة رابطٌ جامعٌ بين هذه المفردات: (العدل، الإحسان، الفحشاء، المنكر، البغي، العفو، العرف)، وهو أنه لا يمكن الحديث فيها عن حقيقة الشيء وجوهره الذي يُعبّر عنه المناطقة بالحدّ (المشتمل على الجنس والنوع والفصل)، ولذلك لجأ بعض المفسرين إلى بيان المعنى من خلال بيان ما يَشتمل على الخاصيّات أو على الأمثال، فكل مُفسّر فسّر المفردة بما رأى أنه الأهم أو مركزيٌّ، وعليه يمكن أن يُفهَم عدد من الأقوال على أنه "اختلافُ تَنَوُّع"، وأن المعاني المذكورة كلها آحادٌ وأفرادٌ لهذا المعنى الكلي. فالمفردات السبعة يربط بينها أنها "مفاهيم كلية" يَصدق عليها كونُها قِيَمًا أخلاقية مطلقة، وإنما وقع الاختلاف في تأويلها؛ لأنها كذلك، ولا يمكن حَدُّ المطلق ولا ضبطُه. أي أن هذه المفردات تجمعها خاصيّات أساسية هي: (1) كونها كلية وتتنوع مشمولاتها لتشمل الكثير من الجزئيات، (2) وأن الفوارق بينها ليست حَدَّية فيمكن أن تتداخل كما قد يتداخل العدل والإحسان أو الفحشاء والمنكر والبغي، (3) وأنها لسعتها تتعدد مجالاتها كما في العدل مثلاً (بينه وبين نفسه، بينه وبين الناس، وبينه وبين اللّٰه)، (4) وأنها تصنيفية أي تَضم أصنافًا عدة كما في الإحسان مثلاً، (5) وأنها تقييمية أي أنها تُضفي قيمة سلبية أو إيجابية بمجرد الاندراج تحتها على سعة ما يمكن إدراجه فيها. معنى ذلك أن هذه المفردات تشكل مفاهيم مركزية في البنية الأخلاقية القرآنية3. قلتُ هذا ثم بدا لي أن الشاطبيّ كأنه وقف على شبه هذا المعنى حين تَحدث عن الأوامر والنواهي المطلقة في القرآن، وقال: هي "أمور مطلقة في مدلولاتها، غير محدودة في الشرع تحديدًا يوقَف عنده لا يُتَعَدى" (الشاطبي 1997, 3: 401).

‫2مشكلة العموم والبحث عن مُخصَّص:

ينشغل المفسر بشرح المعنى النصيّ، أي أنه يدور في حدود الألفاظ وقلّما يتوسع ليُمسك بالمفاهيم والتصورات الكبرى، فحتى أولئك الذين فسروا تلك المفردات بمعانٍ كلية لم يستطيعوا أن يخرجوا من هاجس اللفظ والمعنى اللغوي وسياق الآية المخصوصة إلى بناء كليات توسع المعنى وتوضح أبعاده وتَعَيُّناته من خطاب الشارع كله، فالعدل—مثلاً—في أوسع معانيه هو "وضع كل شيء موضعَه فيدخل فيه كل شيء: التوحيد وغيره" (الماتريدي 2005, 6: 559)،4 أو هو المساواة، وهو نوعان: عدلٌ مطلقٌ يُعرف بالعقل ولا يكون منسوخًا بحال، كالإحسان إلى من أحسن إليك، وعدلٌ نسبيٌّ يُعرف بالشرع ويمكن أن يُنسخ في بعض الأزمنة، وهو المراد بالآية (الراغب الأصفهاني 1992, 552)، ويقف الأمر عند هذا الحد من دون محاولة بناء نظريّ يؤسس لنظرية في العدل مثلاً أو لشرح أبعاد هذا الأمر المطلق وتعيُّناته في منظومة الشريعة. وبناءً على ذلك، لم تَحظَ الآيتان لدى المفسرين القدامى بتأويلاتٍ تُناسب أو توازي مكانتهما المبيَّنة سابقًا، فالتأويلات لم تتجاوز "معاني المفردات" أو حَصْر الأقوال فيها مع غياب المفاهيم الكلية والتصورات النظرية التي تعكس تلك المركزية الأخلاقية الجامعة وموقعَها من عموم الشريعة.

لقد شكل عموم الأمر والنهي الوارد في الآيتين معضلة بالنسبة للمفسرين ولذلك لجأ عددٌ منهم إلى التخصيص، وأكثرُ ما يتجلى ذلك في آية ﴿خُذِ الْعَفْوَ و َأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ التي اعتبرها غيرُ واحدٍ "من عجيب المنسوخ؛ لأن أولها منسوخ، وآخرها منسوخ، وأوسطها مُحْكَم" (ابن حزم 1986, 38، وابن سلامة 1984, 91)، وقد حمَلَهم على القول بالنسخ تَوَهمُ التعارض مع نصوص أخرى؛ فضحّى مَن قال بالنسخ بالعامّ لصالح الخاصّ، وهو الأمر بقتال المشركين الذين لا يُقبل معهم العفو والمسامحة والإعراض، على حين أن مَن رفض النسخ ذهب إلى الجمع بين النصين الخاص والعام أو أَوَّلَهما، ومن هنا قال الرازي: "إذا كان الجمع بين الأمرين ممكنًا، فحينئذ لا حاجة إلى التزام النسخ، إلا أن الظاهرية من المفسرين مشغوفون بتكثير الناسخ والمنسوخ من غير ضرورة ولا حاجة" (الرازي 1999, 15: 435). وقد رفض النسخ كلٌّ من الطبري (310هـ/923م) ومكي بن أبي طالب (437هـ/1045م)، والرازي وآخرون، وقال ابن حجر (852هـ/1449م): "ما ذهب إليه الأكثر أن هذه الآية مُحْكمة" (ابن حجر 1960, 13: 259). ولكن المثير للدهشة أن القول بالنسخ يأتي إلى جنب الروايات التي توضح "جامعية" تلك الآية لمكارم الأخلاق، ومع ذلك لا يُثير نسخُها مع كونها جامعةً أيَّ إشكال أخلاقي، كما لا يُثار أيُّ إشكال عن القول بنسخ الفضائل والمكارم!.

انشغل المفسرون بتخصيص هذا العموم وتقييد هذا الإطلاق عن الانشغال بالتأسيس لإطار نظري من خلال هذه المفردات المركزية في اللغة الأخلاقية القرآنية، وقد صرفَهَم عن ذلك هاجسان: الأول: وجود نصوص جزئية تُوْهم التعارض، والثاني حضور الموقف من الكافر المحارِب. فقد أورد الفخر الرازي مثلاً آيات الحث على العفو—ومنها: ﴿خُذِ الْعَفْوَ ﴾—في معارَضة ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ﴾[الشورى 39]، وأجاب عن هذا التناقض بتقسيم العفو إلى قسمين: الأول: عفوٌ يكون سببًا لتسكين الفتنة وجناية الجاني ورجوعه عن جنايته، وعفوٌ يُجرَّئ الجاني. وبناءً على هذا تكون آيات العفو محمولةً على الأول وآيات الانتصار محمولة على الثاني (الرازي 1999, 27: 604). وقد أَشْكَلَ عموم الأمر في ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ أيضًا؛ لأنه يشمل الكفار، ولهذا لجأ ابن العربي وغيره إلى تخصيصه بالقول: إنه "مخصوصٌ في الكفار الذين أَمر بقتالهم، عامٌّ في كلّ الذي يبقى بعدهم" (ابن العربي دت، 2: 825)، وكذلك فعل أبو منصور الماتريدي (333هـ/944م) في عموم الأمر بالإحسان، فلو حمَلَه على معنى "فيما بينه وبين الخلق، وهو أن يحب لهم كما يحب لنفسه" مطلقًا: لَدَخل الكفار، ولذلك أوردَ احتمالين في المعنى: الأول: أن يتم تخصيصه "فيما أُذن له في ذلك"، والثاني: أن يُحمل على الإطلاق، ويكون حتى قتال الكفار المحارِبين داخلاً فيه؛ لأننا—برأيه—إنما قاتلناهم من أجل "طَلَب نجاتهم وتخليصهم من الهلاك والعذاب الدائم الأبدي، وذلك ما نحبُّه نحن لأنفسنا"، فالقتال يحملهم على الإسلام ومن ثَمَّ النجاة (الماتريدي 2005, 6: 559).

والجدلُ الأصولي حول العموم والخصوص طويلُ الذيل، ولكن عامة الأصوليين يرَون أن العموم أضعف من الخصوص، وأن الخاص حاكمٌ على العامّ؛ "لأن العموم فيما يَدخل فيه من المُسَمَّيَات ليس بأرفع وجوه البيان" (السَّمْعاني 1999, 1: 262)، فالعموم يُسمى "ظاهرًا"، والظاهر يَتَطرق إليه الاحتمال، ويقابله "النصّ" الذي هو أقوى؛ لشدة وضوح دلالته وتَعَيُّنه، ولهذا ستتسع التأويلات في كل ما ليس بنصًّ مع كثرة الأدلة الجزئية والأحكام التفصيلية، ويصبح كلُّ عامًّ قابلاً للتخصيص. وإذا كانت دلالةُ العام على أفراده قطعيةً توجب الحُكْمَ بعمومِه قطعًا—كما هو مذهب الحنفية—فإن هذا لم يمنع من تخصيص العام بدليلٍ آخر، ولهذا استدل الحنفية بآية ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ لإثبات أن "العدل مأمورٌ به على العموم والإطلاق؛ إلا ما خُصَّ أو قُيَّد بدليل" (الكاساني 1986, 2: 332)، وكذلك في صلة الرحم ودفع المنكر (القدوري 2006, 10: 5402، وابن عابدين 1992, 3: 568)، أي أن الخلاف ليس في إمكان تخصيص العام من عدمه، وإنما في أصل الدلالة ومستوياتها استقلالاً من دون النظر إلى الأدلة الأخرى. وكذلك فَعَل المالكية؛ فقد استدل شهاب الدين القرافي (684هـ/1284م) بالآية لإثبات أن "العدل هو التسوية في كل شيء حتى يقوم المخَصَّص"، فهذه التسوية لا تكون إلا بالنقل لا بالعقل (القرافي 1994, 10: 194, 66)، واستدل الماوردي الشافعي بالآية لإثبات أصل تحريم غَصْب الأموال؛ لأنه من البغي (الماوردي 1999, 7: 133)، واستدل الحنابلة بالآية في سياق العدل في القصاص وفي القضاء. أي أنه بالرغم من إمساك الفقهاء بالعموم في الآيتين إلا أنهم لم يُوْلوهما أهمية خاصةً تُخرجهما عن قانون العموم والسعي وراء المعنى "النصّ"، والجمعِ بين دلالات جميع النصوص، وأولويةِ الخاص على العام؛ ولذلك مَن يَنشغل بالعمومات لا يُعدّ فقيهًا عندهم، ولهذا ما كان ممكنًا تأسيسُ بناءٍ نظري على هاتين الآيتين وفق المنظور المألوف لدى المفسرين والفقهاء.

يدور الإشكال إذًا على تنزيل هذا العموم على أفراده، وهو ما دفع إلى التخصيص عبر تَتَبع النصوص الأخرى الواردة على معانٍ خاصة لإخراجها منه، وكلُّ هذا مرهونٌ بدلالة المفردات نفسها، فلو فسرنا العدل بالتسوية فعموم التسوية مُشْكِلٌ، ولذلك سيضطر الفقيه والمفسر إلى تقييد التسوية بالشرع، ومن هنا قال القرافي: "العدل التسوية بالنقل" (القرافي 1994, 10: 66)، ولكنْ وقع الخلاف في تعيينات مفاهيم (العرف، والمنكر، والفحشاء) هل هو العقل أو السمع؟ الإجابة على هذا ستُظهر ميول كل مفسر، فالماتريدي سيُحيل مرجعية تحديد الفحشاء إلى العقل والسمع معًا، والزمخشري المعتزلي سيرى أن "الفواحش ما جاوَزَ حدود اللّٰه، والمنكر ما تُنكره العقول" (الزمخشري 1989, 2: 629)، والجصاص الحنفي ذو الميول المعتزلية سيفسر العدل بأنه "الإنصاف في نظر العقول قبل ورود السمع"، والمنكر ما تستنكره العقول وتأباه، والعرف ما حسُن في العقل فِعله (الجصاص 1992, 5: 11, 4: 214)، أما ابن العربي الأشعريُّ فقد ألحّ على تحديد مرجعية العدل والمنكر والعرف بالسمع (بن العربي 2003, 3: 155, 517, 2: 362)، ونحوه السمعانيّ الأثريُّ وغيره، أي أننا مجدَّدًا أمام انحيازات مذهبية كلامية هذه المرة بعيدًا عن محاولة بناء تصور قرآني نظري كلي.

‫3الكليّ ومراتب الفعل الأخلاقي:

وإذا كان العامّ ينصرف إلى ما ينتظم جَمْعًا من الأسماء (الدبوسي 2001, 94)، فإن الكليّ الذي نعنيه حينما نتحدث عن هذه المفردات/القيم المركزية هو الذي ينتظم جَمْعًا من المعاني، ذلك أن المفسرين انشغلوا بأفراد العام وأصناف المأمور به، وبعضهم انشغل بالبحث في درجة الأمر بين الوجوب والندب كما في تفسيراتهم للعدل والإحسان، ولكنهم لم يَنْشغلوا بتأمل الأمر والمأمور به في إطار كلي، وهو ما تَفَرد به الشاطبيّ )الشاطبي 1997, 3: 392–401) الذي أسّس لقاعدة كلية في الأخلاق والفقه معًا ضمن مبحث "الأوامر والنواهي"، تَوَصل فيها إلى أن "كل خصلة أُمر بها أو نُهي عنها مطلقًا من غير تحديد ولا تقدير؛ فليس الأمر أو النهي فيها على وِزانٍ واحد في كل فرد من أفرادها"؛ وذكر من المأمورات: العدل، والإحسان، وأَخْذ العفو من الأخلاق، والإعراض عن الجاهل، والأمر بالمعروف، وصلة الرحم، وذكر من المنهيات: الظلم، والفُحش، والبغي، والمنكر، إلى جانب عدد كبير من الأوامر والنواهي الأخرى، ولكنْ ما يعنينا هنا أن مفردات الآيتين اللتين نبحثهما تحضران لديه بوضوح.

هذه الخصلة المأمورُ بها أمرًا مطلقًا أو المنهيُّ عنها نهيًا مطلقًا تَرِد في القرآن على ضربين:

الضرب الأول: أن تأتي على العموم والإطلاق في كل شيء، وعلى كل حال؛ لكن بحسب كل مقام، وعلى ما تعطيه شواهد الأحوال في كل موضع. أي أن الشاطبي يوضح لنا أبعاد الكلي والجزئي وقانون الحكم فيه، وما كان هذا حالَه من التركيب والتعقيد لا يكون على مرتبة واحدة، ولذلك يَعيب على من أطلق القول في مثل هذه الخصال بأنها واجب أو ندب، كما هو الحال مع ثنائية العدل والإحسان كما سبق. فالأمر بالإحسان الوارد في الآية لا يقال فيه: إنه أمرٌ جازمٌ في كل شيء، ولا إنه أمرٌ غير جازمٍ في كل شيء، ولكنه ينقسم بحسب المناطات؛ فإحسان العبادات بإتمام أركانها واجبٌ، وإحسانها بإتمام آدابها مندوبٌ. وكذلك العدل في عدم المشي بنعلٍ واحدة ليس كالعدل في أحكام الدماء وغيرها.

الضرب الثاني: أن تأتي الخصلة المأمور بها أو المنهي عنها في أقصى مراتبها، ولهذا يقترن بها غالبًا الوعيدُ أو المدحُ أو الذم، فيقع النص هنا على الغاية أو الحد الأقصى ويتم التنبيه على ما هو دائرٌ بين الطرفين، “حتى يكون العقل ينظر فيما بينهما بحسب ما دلّه دليل الشرع؛ فيميز بين المراتب بحسب القرب والبعد من أحد الطرفين؛ كي لا يسكن إلى حالةٍ هي مَظِنَّة الخوف؛ لقربها من الطرف المذموم، أو مَظِنَّة الرجاء؛ لقربها من الطرف المحمود. تربيةُ حكيم خبير". فالدرجة القصوى في العدل هي الإقرار بالنعم لصاحبها ورَدُّها إليه ثم شكرُه عليها (الإيمان والعمل بشرائعه)، والعبد لا يَقدر على توفية حق الربوبية في جميع أفراد هذه الجملة، ولكن العدل يُطلب في الجملة وفي التفصيل؛ كالعدل بين الخلق إن كان حاكمًا، والعدل في أهله وولده ونفسه؛ حتى العدل في البدء بالميامن في لباس النعل ونحوه.

فالتعقيد الذي يحيط بأفعال الإنسان؛ بحسب مجالاتها وما يَحُفّ بها من أحوال وسياقات، هو الذي جعلها على مراتب متعددة. فالأمر طلبٌ، ولكنّ درجة الإلزام فيه تتحرك بين طرفين: أدنى وأقصى وبين الطرفين مراتب، ولكن الفقيه ينشغل عادةً بالضبط والتقنين للغالب، ويبحث عن درجتين فقط في الطلب: الطلب الجازم وغير الجازم، وأدنى درجات الطلب هي الندب، ومن هنا رأينا القرافي مثلاً يقول مستدلاً بآية ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾: "وأَصلُ كُلَّ معروف وإحسان النَّدْبُ" (القرافي 1994, 6: 258, 312)، وأدخل الفقهاء في ذلك الهِبة والوصية والصدقة والوقف. أما الإطار النظري الذي وضعه الشاطبي هنا فهو جامعٌ بين النظرين الفقهي والأخلاقي، ولذلك عُنيَ بمراتب الأمر والنهي من جهة، وجعل النظر في ما بين الطرفين الأدنى والأقصى موكولاً إلى المجتهد والمكلف؛ فالمجتهد يستنبط الأحكام ويحدد المناطات، والمكلَّف يُنزّل ذلك على حاله "فيَزِن بميزان نظره، ويَتَهدّى لِمَا هو اللائق والأحرى في كل تَصَرف"، وهذا التردد بين المجتهد والمكلف محكومٌ بظهور المعنى وخفائه أيضًا. فالنظرُ في ما بين الطرفين هو نظرٌ يتردد ما "بين الأدلة الشرعية والمحاسن العادية"، وبهذا تجاوز الشاطبيّ إشكالين: إشكال الانحصار بحدّ واحدٍ للأحكام (الندب أو الوجوب)، وإشكال العقل أو النقل الذي شغل المفسرين السابقين، واستطاع أن يبني إطارًا كليًّا يتجاوز فكرة ظاهر الأمر والنهي والعموم والخصوص إلى الكلي والجزئي وتعقيدات الفعل الإنساني ذي المراتب التي لا تنحصر بالنظر الفقهي (الانشغال بالحدود الواضحة الصارمة). وقد أفاد دراز—دون أن يشير—من الشاطبي في بناء فكرته عما أسماه "الجهد المبدع" الذي يقوم على الدوران بين حدين في العمل الأخلاقي (دراز 1998, 613).

خامسًا: الإطار المرجعي للتأويلات الأخلاقية

سبق لدراز وغيره أن عابوا غيابَ مرجعية النص القرآني عن المصادر الأخلاقية التراثية التي استغرقت في وصف طبيعة النفس وملَكاتها بحسب النموذج الأفلاطوني أو الأرسطي أو عبر المزْج بينهما، ولكننا لاحظنا أنه حتى النص القرآني فُهم في ضوء تلك المرجعية الأخلاقية اليونانية، ويبدو أن الراغب الأصفهاني كان سبَّاقًا إلى ذلك حين استعار النموذج الأفلاطوني في تقسيم النفس وحصَر أصول الفضائل الخلُقية في أربعة هي: العفة والشجاعة والحكمة والعدل؛ لأنها ترجع إلى قوى النفس الثلاث: الشهوية والغضبية والعاقلة أو الناطقة (ابن رشد 1998)، وهو تصورٌ مبنيٌّ على أن المُثُل تقوم في النفس التي هي أسبق من الجسد، ومن ثَم فالإنسان يقوم بعملية تَذَكر لما قام بالنفس، أي أن المُثل تقوم في عالم المعقول لا المحسوس وأن المعرفة ذاتية. فالنفس الشهوية تنضبط بالعفة، والغضبية تنضبط بالشجاعة، والعاقلة تنضبط بالحكمة، ومن مجموع هذه يتولد العدل. يُسلّم الراغب بهذا التصور، فيحصر الفضائل في أربعة، وأن "الذي يَلْزَم تطهيره من النفس هو القوى الثلاث"، فالراغب يتبنى التصور الأفلاطوني دون أن يشير إليه، ويصوغه بعبارات قرآنية فيُزاوج بين "الحكمة والعلم"، وبين "العفة والجود"، وبين "الشجاعة والحلم"، وبين "العدل والإحسان"، وأن هذه هي "جِمَاع المكارم، وطهارةِ النفس، وحسنِ الخلق" الوارد في النصوص القرآنية والنبوية، وهذا التصور—في نظره—مُستنبَط من قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات 15]، "فبالإيمان يحصل العلم والحكمة وذلك بإصلاح الفكرة، وبالمجاهدة بالأموال والأنفس تَحصل العِفَّةُ والجود اللذان هما تابعان لإصلاح الشهوة، والشجاعةُ والحلمُ اللذان هما تابعان لإصلاح الحَمِيّة، وعلى ذلك قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾" (الراغب الأصفهاني 2007, 88, 95–96).

وعلى شاكلة الراغب، يستثمر البِقاعيُّ التصور الأفلاطوني في إثبات تَنَاسب الآيات والسور، فقد سلّم بأن "أمهات الفضائل—كما تبين في علم الأخلاق—أربع: العلم والشجاعة والعدل والعفة"، وبنى عليه أن سورة آل عمران داعيةٌ إلى اثنتين منها وهما: العلم والشجاعة، وساق عددًا من الآيات الدالة على هذا المعنى [الآيات رقم: 3, 7, 18, 139, 146, 159, 169, 172, 200]، وأن سورة النساء "جاءت داعيةً إلى الفضيلتين الباقيتين وهما: العفة والعدل، مع تأكيد الخصلتين الأُخْرَيَيْن حسبما تدعو إليه المناسبة، وذلك مُثمرٌ للتواصل بالإحسان والتعاطف بإصلاح الشأن للاجتماع على طاعة الديّان" (البقاعي1984 , 5: 172). أما بخصوص الآيات فقد رأى أن قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ دعا إلى "أمهات الفضائل، وهي: العلم والعدل والعفة والشجاعة، وزاد من الحسن ما شاء، فإن الإحسان من ثمرات العفة، والنهي عن البغي الذي هو من ثمرات الشجاعة المذمومة، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالعلم، وكان هذا أبلغَ وَعْظ" (البقاعي 1984, 11: 239)، ويتكرر هذا في مناسبة آيات أخرى، وقد صرّح البقاعي في موضعٍ بالنقل عن سعد الدين التفتازاني (792هـ/1390م) (البقاعي 1984, 17: 336, 18: 388, 15: 180).

أما ابن حزمٍ (456هـ/1064م) فيبدو أنه كان سبّاقًا في تَبني تصور جالينوس (200م) في قوى النفس والاستدلالِ له بالآيات في مقدمة كتابه في أصول الفقه (ابن حزم 1983, 1: 4–6)، ثم تبناه فخر الدين الرازي في تفسيره دون أدنى إشارة إلى جالينوس. وجالينوس كان يرى أن الخُلُق حالٌ للنفس داعيةٌ الإنسانَ إلى أن يتصرف بلا رَوِيَّة ولا اختيار، وهو المعنى الذي شاع في تراثنا الأخلاقي كما سبق، والأخلاق تَصدر عن المزاج، والمزاج نتاج الأخلاط، والأخلاط ترجع إلى البدن، أي أن الأخلاق إنما تَصدر عن النفس غير العاقلة، أي الشهوانية والغضبية، ولكن إذا خرج الإنسان عن حد الاعتدال تَدخلت النفس العاقلة واستعانت بالغضبيةِ لإعادة الاعتدال، فجالينوس لا يحصر القوى في ثلاث كأفلاطون، وإنما يرى أن هناك قوىً أخرى غير العقل تَصدر عن النفس الناطقة، مثل قوة الحس والوهم (جالينوس 1981, 190, 163–142 ,1962 Walzer ,2016 Stanford Encyclopedia)، وسنجد الرازي يستعين بالقوى الشهوية والغضبية والوهمية للوقوف على مراد اللّٰه وحكمته في القرآن في مناسبات شتى، منها آيتا ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ و﴿فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجَّ﴾ [البقرة 197]. يقول الرازي: "ثَبَت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة: قوة شهوانية بهيمية، وقوة غضبية سَبُعية، وقوة وهمية شيطانية، وقوة عقلية ملَكية، والمقصود من جميع العبادات قَهْر القوى الثلاثة، أعني: الشهوانية والغضبية والوهمية،" وكرر الكلام عن القوى واستثمره في تفسير عدد من الآيات (الرازي 1999, 5: 319, 21: 367, 27: 603, 21: 367)، وفي موضع آخر ذكر أن للنفس 19 قوة (الرازي 1999, 14: 216). وفي خصوص ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ يقول: "فظهر بما ذكرنا أن هذه الألفاظ الثلاثة (الفحشاء والمنكر والبغي) منطبقة على أحوال هذه القوى الثلاثة، ومن العجائب في هذا الباب أن العقلاء قالوا: أَخسُّ هذه القوى الثلاثة هي الشهوانية، وأوسطها الغضبية، وأعلاها الوهمية، واللّٰه تعالى راعى هذا الترتيب … فهذا ما وصل إليه عقلي وخاطري في تفسير هذه الألفاظ" (الرازي 1999, 20: 262)، وقد تابعه على هذا البيضاوي وأبو حيان الأندلسي (745هـ/1343م) وابن عادل الحنبلي والنيسابوري وآخرون (البيضاوي 1997, 3: 238، وأبو حيان 1999, 2: 286, 6: 587, وابن عادل 1998, 3: 404, 6: 239, 12: 145، والنيسابوري 1995, 4: 300، والسيوطي 1974, 3: 182).

‫وقد ترك التصور الأفلاطوني عن قوى النفس والفضائل الأربعة أثرًا بالغًا ليس على التفسير وحده، بل حتى على بعض الأصوليين والمتكلمين كصدر الشريعة الأصغر المحبوبيّ (747هـ/1345م) وسعد الدين التفتازاني الذي يقول: "أمهات الفضائل هي هذه الثلاثة (النطقية: النفس المطمئنة، والشهوانية: النفس الأمّارة، والغضبية: النفس اللوّامة)، وما سوى ذلك إنما هو من تفريعاتها وتركيباتها، وكلٌّ منها مُحْتَوشٌ بطرفي إفراط وتفريط هما رذيلتان" (التفتازاني دت، 2: 96)، والمحبوبي والتفتازاني يمزجان بين التصور الأفلاطوني في قوى النفس ومعرفة الفضائل والتصور الأرسطي في توسط الفضائل بين رذيلتين وحَمل ذلك على الوسطية الإسلامية، ويمكن أن نجد أثر ذلك عند ابن رشد الحفيد (595هـ/1198م) أيضًا في كتابه الذي وضعه في الفقه حيث جعل مدار السنن المشروعة العملية على تحصيل الفضائل النفسانية، ورَدَّهَا إلى أربعة هي: "فضيلة العفة، وفضيلة العدل، وفضيلة الشجاعة، وفضيلة السخاء"، ورأى أن "أكثر ما يذكر الفقهاء في الجوامع من كتبهم ما شَذَّ عن الأجناس الأربعة،" وأن "العبادة هي كالشروط في تثبيت هذه الفضائل" (ابن رشد 2004, 4: 258)، وهو الملحظ الذي سيعتمده فيما بعد البقاعيُّ حين يقول: "المقصود من جميع العبادات قَهْر القوى الثلاث" (البقاعي 1984, 3: 139). ويمكن تَلَمّس الأثر الأفلاطوني أيضًا في كلام ابن قيّم الجوزية (751ه/1349مـ) حين قال: "حُسن الخلق يقوم على أربعة أركان لا يُتصور قيامُ ساقه إلا عليها: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل، ومنشأ جميع الأخلاق السافلة وبناؤها على أربعة أركان: الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب" (ابن قيم الجوزية 1996, 2: 294–295).‬

سبق لعبد الحميد الفراهي أن أدرك أن علم الأخلاق خلا من علم التأويل فلا تجده مُستَعمَلاً فيه (الفراهي دت، أ، 13)، في حين أنه صار جزءًا من أصول الفقه وكاد يقتصر عليه، وربما يكون غياب الإطار التأويلي عن علم الأخلاق واقتصارُه على علم أصول الفقه لاستنباط الأحكام: سببًا في ضعف التنظير الأخلاقي القرآني من جهة، وفي الركون إلى التصورات الأخلاقية اليونانية من جهة أخرى، خصوصًا أن علم الأخلاق كاد ينحصر في تصورات الفقهاء والمفسرين في الفضائل والآداب التي أَفردها المحدّثون والفقهاء بالتصنيف، فقانون الفقه اعتنى بالأحكام ذات الحدود الواضحة والمبنية على حدين: الندب والوجوب؛ وفق قواعد تأويلية منضبطة، وبقيت الآداب مكمّلات ليس فيها إلزام، ولذلك عرّفوها بأنها "كلُّ رياضة محمودة يَتَخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل" (الزَّبيدي 1902, 2: 240)، ومن ثَم شدَّدوا في الأحكام وتساهلوا في الفضائل من جهة الاحتجاج ومن جهة التأويل، ولهذا لم يجدوا حرَجًا في الاستعانة بالموروث اليوناني وغيره.

ولعل هذا التصنيف في الآداب والفضائل جاء نتاج الخصومة التي وقعت بين علم الظاهر/الجوارح وعلم الباطن/ النفس، والتي يمكن الإمساك بطرفٍ منها في النُّفْرة التي وقعت بين أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي،5 فالحارث جعلَ العلوم ثلاثةً: علم الدنيا وهو علم الحلال والحرام (علم الظاهر)، وعلم الآخرة (علم الباطن)، والعلم باللّٰه وبأحكامه في خلقه في الدارين، وجعل علم الظاهر فرض كفاية، ووضح أن علم الباطن هو علمٌ يقوم بإزاء علم الحلال والحرام، وهو “علمٌ لا يستغني عنه أحد، وعلمُه والعملُ به فرض على كل أحد"، وأن مسائل علم الباطن “يتفرع القول فيها أكثر من تَفَرعه في الحلال والحرام، وهو أولى في التعليم والحفظ على الأمة من ذلك، والحاجة إلى هذا في كل وقت وفي كل أمر أَمسّ شيء من ذلك" (المحاسبي 1975, 81–88). من الواضح أن المُحاسِبيّ يقلل من شأن علم الفقه لصالح علم الباطن (علم الأخلاق الدينية) ويمكن الوقوف على تفاصيل ذلك في كتبه وسيرته، وقد تَأَثر بأفكار المحاسبي عديدون، منهم الغزالي كما يظهر ذلك بوضوح في “إحياء علوم الدين"، ولذلك عابَ سِبْط ابن الجوزي (654هـ/1255م) الكتابَ بأن الغزالي “خرج فيه عن قانون الفقه" (الصفدي 2000, 1: 211).6

وإذا كانت التصورات اليونانية قد هيمنت على الكثيرين، فإن تصورًا إسلاميًّا يمكن أن نقف عليه مع العز بن عبد السلام (660ه/1261مـ) الذي تجاوزَ المأزق الذي صوّره المُحاسِبيّ بأن صوّر ببراعة التداخل المتين بين الفقه والأصول والأخلاق، وقد كان على علمٍ جيدٍ بالمُحاسبي؛ فقد اختصر أحد كتبه وسماه “مقاصد الرعاية". تحدّث العز عن “أخلاق القرآن" وأنها على ضربين: التخلق بخصائص العبودية كالذّل والإذعان، والتخلق ببعض صفات الربوبية كالعدل والإحسان، وفي مواضع أخرى تحدث عن “آداب القرآن" التي اشتمل عليها كتابه “شجرة المعارف والأحوال" (العز 2006, 53, 456)، وهي جامعةٌ للأخلاق الدينية والأخلاق الاجتماعية وأخلاق الذات، وهي وإن ركزت على الأخلاق العملية فقد احتوت على قدرٍ غير يسير من التأسيس النظري للأخلاق، فقد بيّن فضائل الأعمال الظاهرة والباطنة، ورُتب الوسائل والأسباب، وأسباب الفضائل، وكيفيات التخلق، وأخلاق القلوب، وأحكام القلوب والجوارح، والمأمورات والمنهيات الباطنة، والإحسان وضروبه وأشكاله، والمناهي والمأمورات الظاهرة. ومن المهم ملاحظة كثافة الانتشار القرآني في الكتاب الذي استشهد فيه بآيات كثيرة من (96) سورة من القرآن، ما يجعله دراسة قرآنية عن أخلاق القرآن أو آدابه. ويبدو أن العزّ أدرك مأزق الفصل بين آيات الأحكام وآيات الأخلاق، فأوضح أن “معظم أي القرآن لا يخلو عن أحكام مشتملة على آداب حسنة، وأخلاق جميلة، جعلها اللّٰه نصائح لخلقه مُقَرَّبات إليه مُزْلِفَاتٍ لديه، رحمةً لعباده، فطوبى لمن تَأَدب بآداب القرآن، وتَخَلَّق بأخلاقه الجامعة لخير الدنيا والآخرة، وقد كان خلق رسول اللّٰه صلى اللّٰه عليه وسلم القرآن، أي آداب القرآن، وقال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]" (العز 1987, 284).

وقد جعل آية ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ “أجمعَ آية في القرآن؛ للحثّ على المصالح كلها، والزَّجر عن المفاسد بأسرها"، فهي مما يدل على العموم بصيغته (العز 1987, 278)، والألف واللام في مفرداتها (العدل، الإحسان، الفحشاء، المنكر، البغي) للعموم والاستغراق، فلا يبقى من دِقَّها وجِلَّها شيءٌ إلا اندرج فيها، وهي مستغرقة لجميع الأنواع، والإحسان لا يخلو عن جلب نفع أو دفع ضرر أو عن الاثنين معًا، "وتارة يكون في الدنيا، وتارة يكون في العقبى. أما في العقبى فتعليم العلم والفتيا والإعانة على جميع الطاعات وعلى دفع المعاصي والمخالفات، فيدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان" (العز 1991, 2: 189–190, 1: 156)، بل إنه ذهب إلى أن وَصْف الفعل بأنه "معروف" معناه أنه مأمور به (العز 1987, 102)، وهذا يعني أن صيغة الإلزام—بقطع النظر عن درجته—لم تَعد قاصرة على لفظ الأمر؛ بل على الصفة الأخلاقية التي يُفيدها وَصف "المعروف" الذي يَرد في القرآن والذي ورد النهي عن ضده (المنكر). وقد فَهِم بعض العلماء أن العزّ إنما بنى كتابه "شجرة المعارف والأحوال" على هذه الآية ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾، وأنه بيّن فيه اشتمالها "على جميع الأحكام الشرعية" (الحلبي 1980, 2: 157)، أي الظاهرة والباطنة. ويوضح العزّ أن الأحكام قسمان: "الأول: ما كان طلبًا لاكتساب فعلٍ أو تَرْكِه، والثاني: ما لا طلب فيه كالإباحة ونَصْب الأسباب والشرائط والموانع والصحة والفساد وضَرْب الآجال وتقدير الأوقات والحكم بالقضاء والأداء والتوسعة والتضييق والتعيين والتخيير ونحو ذلك من الأحكام الوضعية الخبرية"، ولكن الطلب والتخيير لا يتعلقان إلا بفعل كَسْبِيًّ، وإن عُلَّق شيءٌ من ذلك بفعل جِبِلَّيًّ كان متعلقًا بآثاره لا بذات الفعل (العز 1987, 75–78)، أي أن العزّ انشغل بالتنظير لمجمل الأحكام الظاهرة والباطنة وأوضح الترابط والتكامل بينها، وأسس لأصول نظرية منهجية في علم الأخلاق يمكن الوقوف عليها من خلال كتبه.

‫خاتمة:

حاولت في هذا البحث أن أدرس المقاربة الأخلاقية للقرآن، كما سبق لي من قبلُ أن درست المقاربة الفقهية له، ومع ذلك لا تزال إشكالية العلاقة بين الفقه والأخلاق محل تأمل كبيرٍ ويُحيط بها الكثير من التساؤلات التي بحاجة إلى بحث مستقل لمحاولة فهم وعي الفقهاء السابقين بالمسألة الأخلاقية وحدودها وتصوراتهم عنها وعن علاقتها بالفقه، من خلال دراسة اصطلاحات مثل: الآداب والفضائل، خصوصًا أن الآداب والفضائل تتخذ مستويات ومجالات متعددة في التراث الإسلامي ويشترك فيها علماء من مجالات وتخصصات متعددة لا يشكل الفقيه إلا واحدًا منها، ما قد يوحي بمقاربات متعددة للمسألة الأخلاقية ممثَّلة بالآداب مثلاً، كما أنه لا يزال إشكال التفريق بين "الأحكام" و"الفضائل" محل نظرٍ لدى الفقهاء لتفسير أسباب تساهلِهم والمحدّثين في الفضائل في حين شدَّدوا في الأحكام، بالإضافة إلى العديد من التساؤلات عن المنحى الأخلاقي النظري في علم أصول الفقه والمقاصد التي توسعت خارج مصادر أصول الفقه. ومن اللافت تداخل الأحكام والآداب في كتب الفقه المبكرة وخصوصًا مع فقهاء المالكية، على حين سنجد أن كتب الآداب الشرعية والأدب عمومًا ستتوسع وتنفصل عن كتب الفقه لاحقًا، وهو ما يحتاج إلى رصد وتفسير لهذه التطورات داخل العلوم ومصادر التراث الإسلامي الشاسعة. وبالرغم من تخصيص محمد عابد الجابري (1431هـ/2010م) لكتاب عن تاريخ "العقل الأخلاقي العربي"، إلا أن الفكر الأخلاقي العربي والإسلامي لا يزال بحاجة إلى غوص في أعماقه وتدقيق وتمحيص عبر تأريخ الأفكار بدقة بعيدًا عن الاستخلاصات السريعة والمتعجلة والانتقائية أحيانًا؛ نتيجة سعة هذا التراث والحاجة إلى التخصص الدقيق في أصوله وفروعه وتطبيقاته، وهو ما قد لا يُتاح لباحث واحد حاول أن يقدم قراءة استطلاعية أو استشكافية لا تأريخًا دقيقًا.

قدّم هذا البحث مساهمة متواضعة ومتفردة لجهة موضوع "آيات الأخلاق" بعيدًا عما شاع استعماله ودرسه تحت اسم "آيات الأحكام"؛ رغم ما في الفصل بين النوعين من صعوبات وإشكالات، ولكنها كانت محاولة لاستشكاف طرائق تفكير المفسرين بالنص القرآني المتعلق بالجانب الأخلاقي تحديدًا، وليكون الأمر منضبطًا وقابلاً للاستيعاب في مساحة محدودة من الكلمات فقد اخترتُ آيتين على وجه الخصوص بناء على معيارين: الأول: المأثورات العديدة التي تقدم كل آية على أنها جامعة لمكارم الأخلاق أو للخير والشر، أو للفضائل، والثاني: اعتبار مفسرين بارزين كالفخر الرازي لهاتين الآيتين مُمَثَّلتين لعلم الأخلاق، وهذه الإشارة تكتسب أهميتها من قِبَل أنه—فيما بدا لي—لم يستقر عند المفسرين فضلاً عن غيرهم تصورٌ نظريٌّ عن علم الأخلاق كحقل دراسي أو علم أو فن من الفنون خارج إطار التصورات الفلسفية اليونانية التي تجعله فرعًا من فروع الفلسفة أو الحكمة العملية.

وبما أن انتقاداتٍ عديدة وُجّهت إلى المفسرين والفقهاء والمتصوفة؛ بسبب تهميش المرجعية القرآنية في التأسيس لعلم أخلاق إسلاميّ، فقد أردتُ أن أختبر هذا عمليًّا عبر الرصد والتتبع الدقيق لطرائق التفكير في المسألة الأخلاقية عند المفسرين تحديدًا، ومن خلال آيتين "أخلاقيتين" مخصوصتين، وهو ما أثبت صحة تلك الانتقادات من جهة، كما أوضح غياب البحث في اللغة الأخلاقية القرآنية التي تتسم بسمات خاصة، وأحد أسباب ذلك يعود إلى عدم استثمار علم التأويل في مجال الأخلاق؛ اكتفاءً بتأسيس منهج لاستنباط الأحكام، فبقيت الأخلاق خِلْوًا من ذلك، وهو ما أدى إلى الاستعارة من اليونان وغيرهم، رغم وجود محاولات محدودة للخروج من ذلك كما وجدنا مع العز بن عبد السلام وأبي إسحاق الشاطبي مثلاً.

‫1 تَتَبعتُ العديد من التفاسير كتفاسير: مقاتل، ويحيى بن سلام، والطبري، والتُّستُري، والماتريدي، والسمعاني، ومكي بن أبي طالب، والراغب الأصفهاني، والجصاص، وابن عطية، والرازي، والبيضاوي، وابن العربي، وابن الفرس، وإلكيا الهراسي، وابن عاشور وغيرهم. وقد ضممتُ التفسيرات المتشابهة بعضَها إلى بعض بعبارات أصحابها لبيان اختلاف تعبير كلًّ، وتوثيق كل قول لقائله ليس له كبير فائدة في هذا السياق، فالمهم حصر الأقوال وتأمل التصورات.‬

‫2 درَس برافمان مفهوم "العفو" وتوصل إلى أنه يعني الفضل، وأن تعبير "خذ العفو" هو حكمة قديمة ومثالٌ قويٌّ على الفلسفة العربية القديمة للحياة (Bravmann 2009, 234).‬

‫3 لا يبدو أن إيزوتسو التفت إليها، وهو وإن التفت إلى بعضها (المعروف والمنكر والفحشاء) فلم يُوفّها أهميتها، كما أن الآيتين اللتين ندرسهما لم تَحظيَا باهتمامه.‬

‫4 والماتريدي يفسر الحكمة والحكيم بنفس العبارة في مواضع عديدة!‬

‫5 أحال تاج الدين السبكي تلك النُّفْرة إلى تَكَلم الحارث في علم الكلام، وفي رأيي أن المسألة أعمقُ من ذلك وتتصل أيضًا بإشكالية علم الظاهر والباطن (السبكي 1992, 2: 278).‬

‫6 وفي نَقْل الذهبي (الذهبي 1985, 19: 342) ما يُفيد أن مخالفة قانون الفقه بسبب قوله بالكشف، ويبدو لي أن الأمر أوسع من ذلك مما يتصل بميله لقانون علم الباطن.‬

قائمة المصادر

‫(*) بعض المؤلفين تمت الإحالة إليهم—في المتن—باسم الشهرة الذي قد يكون الاسمَ الأول، ولذلك وضعنا الاسم المستعمل في الإحالات ما بين قوسين لتمييزه عن غيره.

الأصبهاني، أبو نعيم (أبو نعيم)*. 1974. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء. مصر: السعادة.

الأندلسي، أبو حيان (أبو حيان)*. 1999. البحر المحيط في التفسير. تحقيق صدقي جميل. بيروت: دار الفكر.

ابن باديس، عبد الحميد. 1995. مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير. تحقيق أحمد شمس الدين. بيروت: دار الكتب العلمية.

البخاري، محمد بن إسماعيل. 1998. الأدب المفرد. تحقيق سمير الزهيري. الرياض: مكتبة المعارف.

البغوي، أبو محمد. 1999. معالم التنزيل في تفسير القرآن. بيروت: دار إحياء التراث العربي.

البقاعي، إبراهيم بن عمر. 1984. نَظْم الدرر في تناسب الآيات والسور. القاهرة: دار الكتاب الإسلامي.

البيضاوي، عبد اللّٰه بن عمر. 1997. أنوار التنزيل وأسرار التأويل. تحقيق محمد عبد الرحمن مرعشلي. بيروت: إحياء التراث العربي.

البيهقي، أبو بكر. 1981. الاعتقاد والهداية إلى سبيل الرشاد على مذهب السلف وأصحاب الحديث. تحقيق أحمد الكاتب. بيروت: دار الآفاق الجديدة.

البيهقي، أبو بكر. 2003. شعب الإيمان. تحقيق عبد العلي عبد الحميد حامد. الرياض: مكتبة الرشد.

التفتازاني، سعد الدين. د ت. شرح التلويح على التوضيح. القاهرة: مطبعة صبيح.

الثعلبي، أبو إسحاق. 2002. الكشف والبيان عن تفسير القرآن. مراجعة نظير الساعدي. بيروت: دار إحياء التراث العربي.

الجابري، محمد عابد. 2014. العقل الأخلاقي العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

جالينوس. 1981. مختصر من كتاب الأخلاق لجالينوس. بدوي، عبد الرحمن. دراسات ونصوص في الفلسفة والعلوم عند العرب. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

الجزيري، عبد الرحمن. د ت. الأخلاق الدينية والحكم الشرعية. القاهرة: مطبعة الأنوار.

الجصاص، أبو بكر. 1992. أحكام القرآن. تحقيق محمد صادق القمحاوي. بيروت: دار إحياء التراث العربي.

الحاكم النيسابوري، أبو عبد اللّٰه. 1990. المستدرك على الصحيحين. تحقيق مصطفى عبد القادر عطا. بيروت: دار الكتب العلمية.

ابن حجر، أحمد بن علي. 1960. فتح الباري بشرح صحيح البخاري. بيروت: دار المعرفة.

ابن حزم الأندلسي، أبو محمد. 1983. الإحكام في أصول الأحكام. تحقيق أحمد شاكر. بيروت: دار الآفاق الجديدة.

ابن حزم الأندلسي، أبو محمد. 1986. الناسخ والمنسوخ في القرآن. تحقيق عبد الغفار البنداري. بيروت: دار الكتب العلمية.

الحلبي، علي بن برهان الدين. 1980. السيرة الحلبية في سيرة الأمين المأمون. بيروت: دار المعرفة.

الحنفي الخلوتي، إسماعيل حقي. دت. روح البيان. بيروت: دار الفكر.

الخازن، علاء الدين. 1994. لباب التأويل في معاني التنزيل. تصحيح محمد علي شاهين. بيروت: دار الكتب العلمية.

الخرائطي، أبو بكر. 1999. مكارم الأخلاق ومعاليها ومحمود طرائقها. تحقيق أيمن البحيري. القاهرة: دار الآفاق العربية.

خليفة، حاجي. 1941. كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون. بغداد: مكتبة المثنى.

الدبوسي، أبو زيد. 2001. تقويم الأدلة في أصول الفقه. تحقيق خليل الميس. بيروت: دار الكتب العلمية.

دراز، محمد عبد اللّٰه دراز. 1998. دستور الأخلاق في القرآن. ترجمة عبد الصبور شاهين. بيروت: مؤسسة الرسالة.

دراز، محمد عبد اللّٰه. 1953. كلمات في مبادئ الأخلاق. القاهرة: المطبعة العالمية.

الذهبي، شمس الدين. 1985. سير أعلام النبلاء. تحقيق شعيب الأرناؤوط. بيروت: مؤسسة الرسالة.

الرازي، فخر الدين. 1999. مفاتيح الغيب. بيروت: دار إحياء التراث العربي.

الراغب الأصفهاني، أبو القاسم. 1992. المفردات في غريب القرآن. تحقيق صفوان الداودي. دمشق: دار القلم.

الراغب الأصفهاني، أبو القاسم. 2007. الذريعة إلى مكارم الشريعة. تحقيق أبو اليزيد العجمي. القاهرة: دار السلام.

ابن رشد، أبو الوليد. 1998. تلخيص السياسة لأفلاطون (محاورة الجمهورية). بيروت: دار الطليعة.

ابن رشد، أبو الوليد. 2004. بداية المجتهد ونهاية المقتصد. القاهرة: دار الحديث.

رضا، رشيد. 1990. تفسير القرآن الحكيم (المنار). القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ريكور، بول. 2005. الذات عينها كآخر. ترجمة جورج زيناتي. بيروت: مركز دراسات المنظمة العربية للترجمة.

الزَّبيدي الحنفي، أبو بكر. 1902. الجوهرة النيّرة. القاهرة: المطبعة الخيرية.

الزمخشري، أبو القاسم. 1989. الكشاف عن غوامض التأويل. بيروت: دار الكتاب العربي.

ابن أبي زمنين، محمد بن عبد اللّٰه. 2002. تفسير القرآن العزيز. تحقيق حسين عكاشة ومحمد الكنز. القاهرة: الفاروق الحديثة.

السبكي، تاج الدين. 1992. طبقات الشافعية الكبرى. تحقيق محمد الطناحي وعبد الفتاح الحلو. القاهرة: دار هجر.

ابن سلامة، أبو القاسم هبة اللّٰه. 1984. الناسخ والمنسوخ. تحقيق زهير الشاويش. بيروت: المكتب الإسلامي.

السَّلَفِيّ، أبو طاهر. 2004. الطّيُوريَّات. تحقيق دسمان يحيى معالي وعباس صخر الحسن. الرياض: مكتبة أضواء السلف.

ابن سليمان، مقاتل (مقاتل)*. 1980. تفسير خمسمئة آية في الأمر والنهي والحلال والحرام. تحقيق يشعياهو غولد فيلد. إسرائيل: جامعة بار إيلان.

ابن سليمان، مقاتل (مقاتل)*. 2002. تفسير مقاتل بن سليمان. تحقيق عبد اللّٰه شحاته. بيروت: دار إحياء التراث العربي.

السَّمْعاني، أبو المظفر. 1999. قواطع الأدلة في الأصول. تحقيق محمد حسن الشافعي. بيروت: دار الكتب العلمية.

السيوطي، جلال الدين. 1974. الإتقان في علوم القرآن. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

الشاطبي، أبو إسحاق. 1997. الموافقات في أصول الشريعة. تحقيق مشهور بن حسن آل سلمان. الرياض: دار ابن عفان.

الصفدي، صلاح الدين. 2000. الوافي بالوَفَيَات. تحقيق أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى. بيروت: دار إحياء التراث العربي.

الصنعاني، عبد الرزاق. 1983. المصنف. تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي. بيروت: المكتب الإسلامي.

الصنعاني، عبد الرزاق. 1998. تفسير عبد الرزاق. تحقيق محمود محمد عبده. بيروت: دار الكتب العلمية.

الطبراني، أبو القاسم. 1994. المعجم الكبير. تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي. القاهرة: مكتبة ابن تيمية.

الطبري، ابن جرير. 2001. جامع البيان عن تأويل آي القرآن. تحقيق عبد اللّٰه التركي. القاهرة: دار هجر.

ابن عابدين، محمد أمين. 1992. رد المحتار على الدر المختار. بيروت: دار الفكر.

ابن عادل، عمر بن علي. 1998. اللباب في علوم الكتاب. تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض. بيروت: دار الكتب العلمية.

ابن عاشور، الطاهر. 2000. التحرير والتنوير. بيروت: مؤسسة التاريخ العربي.

ابن عبد البر، أبو عمر. 1967. التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد. تحقيق مصطفى بن أحمد العلوي ومحمد عبد الكبير البكري. المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

عبد الرحمن، طه. 2000. سؤال الأخلاق: مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. بيروت: المركز الثقافي العربي.

ابن عبد السلام، العز (العز)*. 1987. الإمام في بيان أدلة الأحكام. تحقيق رضوان غربية. بيروت: دار البشائر الإسلامية.

ابن عبد السلام، العز (العز)*. 1991. قواعد الأحكام في مصالح الأنام. تحقيق طه عبد الرؤوف. القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية.

ابن عبد السلام، العز (العز)*. 2006. شجرة المعارف والأحوال. تحقيق إياد الطباع. دمشق: دار الفكر.

ابن العربي، أبو بكر. 1986. قانون التأويل. تحقيق محمد السليماني. بيروت: مؤسسة علوم القرآن.

ابن العربي، أبو بكر. 1992. القبس في شرح موطأ مالك بن أنس. تحقيق محمد عبد اللّٰه ولد كريم. بيروت: دار الغرب الإسلامي.

ابن العربي، أبو بكر. 2003. أحكام القرآن. تحقيق محمد عبد القادر عطا. بيروت: دار الكتب العلمية.

ابن العربي، أبو بكر. دت. أحكام القرآن. تحقيق محمد علي البجاوي. القاهرة: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه.

ابن عرفة، محمد بن محمد. 2014. المختصر الفقهي. تحقيق حافظ خير. د.م: مؤسسة خلف.

ابن عطية الأندلسي، أبو محمد. 2001. المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. تحقيق عبد السلام عبد الشافي. بيروت: دار الكتب العلمية.

الغزالي، أبو حامد. 1990. جواهر القرآن. تحقيق محمد رشيد القباني. بيروت: دار إحياء العلوم.

الغزالي، أبو حامد. 2004. إحياء علوم الدين. بيروت: دار المعرفة.

الفراهي، عبد الحميد. د ت، أ. التكميل في أصول التأويل. الهند: مطبوعات الدائرة الحميدية.

الفراهي، عبد الحميد. د ت، ب. تعليقات على هامش المصحف. مخطوط.

القدوري، أحمد بن محمد. 2006. التجريد. تحقيق محمد سراج وعلي جمعة. القاهرة: دار السلام.

القرافي، شهاب الدين. 1994. الذخيرة. تحقيق سعيد أعراب. بيروت: دار الغرب الإسلامي.

القرطبي، أبو عبد اللّٰه. 1964. الجامع لأحكام القرآن. تحقيق أحمد البردوني وإبراهيم أطفيش. القاهرة: دار الكتب المصرية.

القشيري، عبد الكريم. 2000. لطائف الإشارات. تحقيق إبراهيم بسيوني. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.

ابن قيم الجوزية، شمس الدين. 1996. مدارج السالكين في منازل إياك نعبد وإياك نستعين. تحقيق محمد المعتصم باللّٰه البغدادي. بيروت: دار الكتاب العربي.

الكاساني، علاء الدين. 1986. بدائع الصنائع. بيروت: دار الكتب العلمية.

الماتريدي، أبو منصور. 2005. تأويلات أهل السنة. تحقيق مجدي باسلوم. بيروت: دار الكتب العلمية.

الماوردي، أبو الحسن. 1981. تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك. تحقيق محيي هلال وحسن الساعاتي. بيروت: دار النهضة العربية.

الماوردي، أبو الحسن. 1986. أدب الدنيا والدين. بيروت: دار مكتبة الحياة، 1986.

الماوردي، أبو الحسن. 1999. الحاوي الكبير. تحقيق علي معوض وعادل عبد الموجود. بيروت: دار الكتب العلمية.

المحاسبي، الحارث بن أسد. 1975. كتاب العلم. تحقيق محمد العابد مزالي. تونس: الدار التونسية للنشر.

المراغي، محمد مصطفى. د ت. تفسير المراغي. القاهرة: مصطفى البابي الحلبي.

ابن المرزبان، أبو بكر محمد بن خلف. 1999. المروءة. تحقيق محمد خير رمضان يوسف. بيروت: دار ابن حزم.

ابن مسكويه، أحمد بن محمد. د ت. تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق. تحقيق ابن الخطيب. القاهرة: مكتبة الثقافة الدينية.

المغربي، عبد القادر. 1925. الأخلاق والواجبات. القاهرة: د ن.

المكي، أبو طالب. 2005. قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد. تحقيق عاصم الكيالي. بيروت: دار الكتب العلمية.

موسى، محمد يوسف. 1943. مباحث في فلسفة الأخلاق. القاهرة: مطبعة الأزهر.

الندوي، أبو الحسن. 1978. مقدمة. الحسني، عبد الحي. تهذيب الأخلاق. القاهرة: دار الاعتصام.

النسفي، أبو البركات. 1998. مدارك التنزيل وحقائق التأويل. تحقيق يوسف علي بديوي. بيروت: دار الكلم الطيب.

النيسابوري، نظام الدين. 1995. غرائب القرآن ورغائب الفرقان. تحقيق زكريا عميرات. بيروت: دار الكتب العلمية.

"آيات الأخلاق": سؤال الأخلاق عند المفسرين (2024)

References

Top Articles
Latest Posts
Recommended Articles
Article information

Author: Merrill Bechtelar CPA

Last Updated:

Views: 6550

Rating: 5 / 5 (70 voted)

Reviews: 93% of readers found this page helpful

Author information

Name: Merrill Bechtelar CPA

Birthday: 1996-05-19

Address: Apt. 114 873 White Lodge, Libbyfurt, CA 93006

Phone: +5983010455207

Job: Legacy Representative

Hobby: Blacksmithing, Urban exploration, Sudoku, Slacklining, Creative writing, Community, Letterboxing

Introduction: My name is Merrill Bechtelar CPA, I am a clean, agreeable, glorious, magnificent, witty, enchanting, comfortable person who loves writing and wants to share my knowledge and understanding with you.